مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

الشاعر والباحث درويش الأسيوطي يكتب:من تلك الأيام .. ( مدرسة البنات )

2024-05-09 05:44:51 - 
الشاعر والباحث درويش الأسيوطي يكتب:من تلك الأيام .. (  مدرسة البنات )
الشاعر والباحث درويش الأسيوطي

ليس هذا العنوان اسمًا لمدرسة جديدة ستفتح في التجمع الخامس،  تدعي القيام بالتعليم مقابل الحصول على دم قلب المصريين بالدولار الأمريكي، ولا تقدم  لنا ولهم سوى الزي الأفرنجي والاغتراب والرطانة الأجنبية . كما أنني لا أقصد بالتأكيد الفيلم العربي الشهير.إنه اسم لمدرسة حقيقية كانت تفتح أبوابها في الصعيد، لم يكن لها في يوم من الأيام مبنى، ولا أساتذة ، ولا ناظر كناظر مدرســة المشاغبين. وكانت البنات هن فيها الطالبات، والمدرسات، والناظر في نفس الوقت. ولا تعجـب إن اكتشفت أن هذه المدرسة اللغز كانت تقوم على أحدث نظريات التربية والتعليم التي وصلتنا من أوروبا المقدسة في عقودنا الأخيرة. 
          قبل قيام ثورة 23 يوليو المجيدة، وقبل بناء السد العالي الرمز، لم يكن الفلاح في صعيد مصر يتمكن من زراعة أرضه إلا مرة واحدة في السنة، عقب انحسـار ميـاه الفيضان، أو كما يحب أن يسميه [ الدميرة ]، وكانت كثير من مساحات الأرض السوداء  تظل بائرة بلا زراعة حتى يأتي الفيضان التالي. وقد حاولت الأسرة الصعيدية استغـلال تلك الأرض في تربية الأغنام والماعز، ولم يكن بالطبع في قدرة معظم الأسر شراء الأغنـام والماعز. لكن المـرأة المصرية بعبقريتها لم تفوت الفرصة، فأخرجت حـــومات الأوز والبط والمالطي للرعي في تلك الأرض، وأخرجت خلفها من بالبيت من البنات الصغيرات .
       تخرج البنات الصغيرات خلف حومات الأوز والمـاطي مع شروق الشمس، لتدفع بالأوز إلى البرك الضحلة التي خلفتها مياه [ الغراق ]، ويترك المالطي (1)  ليرعى على شطــوط البرك والخيران والمريس (2)، وتأوى البنات هربا مـن القيظ إلى ظـل أشجار النخيل والسنط، و هناك تفتح [ مدرسة البنات ] فصولها ولا تغلقها إلا عند الرواح ، قبيل غياب الشمس من هذا التجمع التلقائي الحميم، تكتسب البنات معظم معارفهن من خلال الملاحظة  ومن خلال اللعب والرقص والغناء، هناك يكتسبن العديد من المهارات والقيم والخبرات الحياتية التي من الصعب الحصول عليها الآن من الكتب الملونة، بل وربما من وسـائط التواصل الإجتماعي على الشبكة العنكبوتية [ النت ] .  لم تكن البنت الصعيدية الصغيرة  تحتاج أن تسأل أمها كيف جاء أخي الصغير، ولم تكن الأم في حاجة إلى اختلاق قصة تبرر بها دخول الطفل حياة الصغيرة ، فعمليات التناسل والتلاقح تتم أمام عيون البنات في عالم الحيوان والطيور، وهن منتبهات أو لاهيات ، في مدرستهن تلك المفتوحة.
       والدرس الأول والأثير لدى البنات في صعيد مصر وربما في العالم أجمع، هو [ البيت ] أو تكوين الأسـرة . هنا تتحول عملية تكوين الأسرة إلى لعبة  [ عريس وعروسة ] ، وتتحول الأغـنية المصاحبة للعب البنات ، إلى درس في القيم الإيجابية لتكوين الأسرة . فعلى أنغام الأيدي المتصـافقة تغني البنات : [ حمامه لقطت .. قالوا لها : اتْجوَّزي .. ضحكت واتبسطت قالوا لها: اتطلَّقي .. اتشالت واتخبطت ] الأغنية تتحدث عن حمامة صغيرة جدا [ لقطت ] أي استطاعت لأول مرة أن تلتقط الحب بمنقارها، وأن تستغني لأول مرة عن [ تزقيق ] (3) أمها لها ، تلك الصغيرة تدرك قيمة الزواج والبيت والحفاظ عليهما ، لذلك عندما قيل لها أنها ستتزوج ، فرحت وانبسطت أسارير وجهها ، وقد غضبت غضبا شديدا جعلها تنشال وتنخبط لمجرد أن قالوا لها تطلقي . 
      الأغنية القصيرة البسيطة تعلي من قيمة الزواج أمام عيني الفتاة الصغيرة ، وتبغضها في الطلاق ، وتعدها لتكوين أسرة بمجرد خروجها من البيضة ، وبمجرد قدرتها على الإعتماد على نفسها ، وعليها أن
تحافظ على بيتها وعلى زوجها ، وأن ترى في الطلاق عملا بغيضا عليها أن تتجنبه . أما الدرس الثاني فهو يتعلق بواحد من التابوهات العتية في المجتمع الشرقي، وهو الجنس. وتتعلم البنت الصغيرة في مدرسة البنات تلك أن الوظيفة الأساس للتلاقي بين الذكر والأنثى هي التكاثر، حتى أنهن يطلقن على عملية التلقيح الطبيعية [ الكسير ] أي التكثير أو الإكثار.  لهذا ينطبع في ذهن الصغيرة أن تلاقي الذكر والأنثى  هو وسيلة لتكــوين الأسرة وانجاب الأطفال . وتتعلم أيضا أن لهذا الأمر موعده ، فلا قيمة لتكسير البطة ما لم تكن عليها البيضة(4) .  أما المتعة الحسية فلا ترد على ذهن الصغيرات بالطبع ، لذا لا تتردد الفتاة في الزواج من الشاب الذي تتوافر فيه صفات الرجولة وأهمها القدرة على فتح البيت حتى إن كانت لم تره إلا مرة أو مرات قليلة . 
         ولا تشكل كيفية ممارسة الجنس معضلة تستدعي التصورات الخاطئة  ، حيث ترى البنت الصغيرة بأم عينها [ دكر البط ] يعتلي البطة للحظات ، ثم ينسربان معا إلى ماء البركة  ليواصلا دورة الحياة . وربما تحمل البنت بأمر من أمها البطة التي [ عليها البيضة ] لتضعها أمام [ الدكر] بحـــوش بيت الجيران  [ ليكسرها]  أو بالفصحى ليكثرها . فقد تعلمت البنت أن البيضة التي لا يخصبها الذكر تفسد ، فهي لا تنتج فرخا  ، ولا تصلح للأكل بعد طول الرقاد عليها.  لهذا لم يخرج علينا في الصعيد من ينادي بتدريس الجنس في الفصول المدرسية ، فنحن لسنا في حاجة إلى ذلك . 
       ويرتبط بهذا الأمر قيمة إجتماعية أخرى هي قيمة [ الاستقرار ] ، وتتعلمها البنت الصغيرة بالمشاهدة ، فما تضعه البطة من بيض لا يتحول إلى فراخ ما لم تحتضن البطة أو الفرخة أو الأوزة بيضها فترقد عليه ، وتمنحه من دفء صدرها ما يعينه على الحياة والخروج إلى الوجود وترى البنت الصغيرة كيف تتحول النعجة الوديعة إلى مارد متحفز ، حين تشعر باقتراب الخطر من وليدها الصغير ، فتعلم أن حماية الطفل مسئولية الأم قبل أن يكون مسئولية الأب. ولأن الأم هي من تتحمل القسط الأوفر من المعاناة في الحمل والوضع والتربية فإن شراستها في الدفاع عن صغيرها تخرجها من نعومة جلدها الأنثوي .  وتتعلم البنت الصغيرة أيضا أن الرضاعة ليست الوسيلة الوحيدة للتعبير عن المحنة أو الحب . فتسمع البنت عجائز القرية يقولون في أمثالهن الشعبية  [ زي محنة الوزه ..بلا بزه ]  أي أن الأنثى من الثديات تلقم طفلها ثديها محبة وعطفا ، والأوز لا ثدي له ، لكنه قادر عـــلى منح فراخه ما يكفي لنموها من العطف والمحبة . بل إن فراخ الحمام واليمام والطيور المحلقة  تحتاج إلى فترة أطول من الإحتضان من بعض الطيور الأخرى كالدواجن ، فتلك الفراخ تحتاج إلى من يزققها أي يضع الطعام في فمها حتى حين . كل هذا يجعل البنت الصغيرة تشعر بمسئوليتها عن وجود الحياة ، وتتعلم في [ مدرسة البنات ] أن [الاستقرار] هو الوسيلة الوحيدة لتمكن المرأة من القيام بدورها . 

معاني الألفاظ 

(1) الماطي : ما يطلق عليه الفراخ الرومي أو التركي . وهم ينسبون هذا النوع الي جزيرة مالطة بالتحديد . وهذا يدل على أن هذا النوع من الطيور ليس من الطيور المصرية الموطن أصلا. 
(2) البركة : مساحة من الماء المنقطعة بين اليابس سرعان ما تتبخر أو يفسد ماؤها ، والخور  خليج من الماء متصل بالنهر لكنه قد يكتسب الاسم بشكل دائم فيطلق على اليابس بمحل ذلك الماء حتى بعد انحساره . أما المريس أو المريسي فلفظ يطلق على مساحة من الأرض المغمورة بالماء بعيدة عن النهر ، وعادة ما يبقى الماء في المريس حتى يأتي موسم الفيضان التالي وتزرع على هذا الماء شطوط المريس . 
(3) التزقيق عملية استمرار الزق أي الدفع الرقيق . وتطلق على عملية إطعام الطائر لفرخه بمنقاره حيث يدفعه بيسر في فم الفرخ . 
(4) عليها البيضة : يطلق التعبير على فترة تكون انثى الطيور قد قاربت بيضتها على الخروج وتكون [ 
بريشت ] أي طرية ، وهي الفترة المناسبة لتلقيح البيض ، وتتعرف المرأة على ذلك بجس البيضة بإصبعها.

مساحة إعلانية