مساحة إعلانية
بياع (حلاوة زمان) زائر من زوار قريتنا في موسم الحصاد .و حين نقول (الحصاد) فإننا نعني موسم جمع محصول القمح . فلكل نبات نجمع محصوله اسم خاص لموسمه. فكما نقول (حصاد القمح) أو الحصيدة نقول (توقيع القيضي )، ويعني التعبير قطع أعواد الذرة الرفيعة، و(كسر القصب) ، وقطع النخل أو قطع البلح ، و(قلع السمسم) و(قلع البصل) و(قلع الفول )، وجني القطن .. وهكذا ..
ويحظى (حصاد القمح) و(توقيع القيضي) باهتمام خاص ، فالذرة أو (الصهبا) كما نسميها هي العيش. أي مصدر صناعة الخبز ( عيش القيضي ) الذي نعيش عليه طول العمر، أما القمح فهو صانع (خبز البهجة) في الأفراح والأيام المفترجة كالأسواق والأعياد وأيام الاحتفالات الخاصة والعامة. لهذا يكثر زوار قريتنا وحقولها في الحصاد ووقيع القيضي .
فترى أصحاب (العليقة) يجرون جحوشهم مرتكزون على عصيانهم ،يلقون بالتحية المعتادة ( عوافي .. الله يديهم العافية ) ويرد الحصادون ( الله يعافيك )، ويسارع صاحب الغيط بربط (قتاية) أوحزمة من القمح بسنابلها لصاحب (العليقة). و ( صاحب العليقة ) حرفي يقوم بتقديم خدمة دورية طوال العام لا يتقاضى مقابل القيام بها أجرا نقديا ، ويكتفي أن يحصل على جزء من حصاد حقول من يقوم بخدمتهم ، فهذا ما يفعله الحلاق والنجار والبحار والحداد ، واللحاد .. والمنادي .. وغيرهم.
ومن الزوار أيضا جماعة من الشحاذين نطلق عليهم الكشاكين أو أبو كشك ، وهم طائفة من البشر ذوي ألسنة حادة، وأقوال بليغة، يحترفون المدح والذم لعباد الله.. فهم يمرون على الحصائد يمدحون أصحابها ويفيضون في إمطار أصحاب الحقول الكرماء الذين يعطون من يسألهم ، فإذا أكرمهم صاحب الغيط بالعطاء رفعوا أصواتهم بذكره وذكر عائلته ووصفهم بكل صفات الجود والكرم والعطاء والمنح وغيرها ، أما إذا قصر صاحب الغيط في العطاء، فيكنون عنه بأوصاف أقلها ( الندل والجلده والقيحة ) ويذمون البخلاء وهم يعنونه بالطبع ، فيتقي الناس السنتهم بمنحهم القليل أو الكثير تجنبا لحاد ألسنتهم .
ولك أن تتصور في موسم الحصاد سوقا يجول على رؤوس الحقول من البائعين ، فإذا انتهت أيام الحصائد، ونقل القمح غلى الأجران، ،تحول ركب (البياعين) السريحة .. إلى الدروب والبيوت . ومنهم ( بياع حلاوة زمن ). والحلاوة في عرفنا هي الحلاوة العسلية. وهل نعرف غيرها ؟ وهي نوع من الحلوى يصنع من العسل الأسود، فيخلط (العسل الأسود ) بدقيق القمح الأبيض بنسب معينة، ويتحول الخليط إلى عجينة سكرية قابلة للمط ، وعملية المط التي يمارسها صانع الحلوى تزيد الخليط تماسكا وصلابة ، ويقوم البائع قبل خروجه من منزله بطي شريحة مناسبة من عجينة العسلية الممطوطة على جريدة قوية من جريد النخل بشكل حلزوني من أعلى إلى أسفل، حتى منتصفها تقريبا، وينثر عليها بعض الدقيق المخلوط بطحين السكر الأبيض ، ويخرج حاملا إياها على كتفه إلى أقرب القرى .
ويتفنن (بياع الحلاوة) في جذب انتباهنا نحن أطفال القرى بتعليق ( شخرانه ) أو شخشيخة ملونة بأعلى ( عصاية الحلاوة ) يهزها ليجمعنا،وقد يستغيض عن الشخشيخة بمزمار. وقد ينثر بعض الألوان الحمراء والزرقاء على سطح العسلية، و يبتدع من النداءات ما يلفت انتباه النساء والأطفال .وأشهرها ( حلاوة زمان .. يا حلاوة .. ) كان بائع الحلوى الشيخ يغنيها فتهتز لحيتة البيضاء، راقصة على صدره العريض النظيف . فإذا تجمعنا حوله فحصنا بعينيه الخبيرتين ، وخص من تبدو عليه النعمة واليسار منا بقطعة صغيرة من العسلية الملونة، كطعم ، فيتحلب ريقنا رغبة في تذوق حلاوة العسل، فينفلت من ذاق ليكمل متعته بالشراء ، ولو بذل دموع عينيه أمام أمه . .
وتشتري الأمهات ببعض الغلال حلاوة العسل لسببين: الأول إلهاء أطفالهن ليتفرغن لأعمال تخزين القمح في الصوامع والحواصل أو الأدوار. أما السبب الثاني فلا نعرفه نحن الأطفال، لكن تعرفه النساء ويبتهج له الأزواج ، وخاصة في أيام الخميس أو أيام السوق . .
فإذا صرخ حامل عصاية الحلاوة ( حلاوة زمان .. يا حلاوة ) أسرعنا إلى الأمهات والجدات نرجوهن للحصول على القليل من ( الغلة ) لشراء الحلاوة . فإذا ضنت الأمهات والجدات بالقيل من الغلة ، تسربنا إلى الأسطح والأحواش لنأخذ بأنفسنا ما نستطيع أن نظفر به من غلال الصوامع والحواصل التي لم (تليس) أو تغلق بعد . ومن حصل منا بقطعة من حلاوة زمان فقد فاز. وله أن (يحارن) من تعذر عليه الوصول إلى الحلاوة . فإن شاء أعطاه لحسة على طرف لسانه، .وإن شاء منعه .
تذكرت عمق تلك الشهوة التي كانت تتملكنا حين يحصل أقراننا على (حلاوة زمان )، ونحرم نحن منها ، وأنا أتابع مجموعة من الصور التي دأب على نشرها صديقنا الشاعر الدكتور أحمد الجعفري عن رياداته المتكررة لبلاد الفرنجة ، وأمامه الموائد التي (تسيل الريق) من اللحوم والأسماك والحلوى وأشياء في كؤوس لم نتذوقها، وربما لم نسمع بها .. وأقول في نفسي : ( كان الله ف عون محروم الطشه ..يا ولدي ).
وما بلغني من تهامس الأصدقاء حول (موائد الجعفري الملونة) جعلني أفكر في تقديم بلاغ إلى النائب العام أتهم فيه صاحبي .. وأنا في الحق ليس لي صاحب .. أتهمه وصديقنا الصحفي الكبير أحمد خالد .. بإثارة الفتنة ..وتهديد الأمن القومي .. وإيذاء خلق الله .. فقد سمعت أن صديقتنا الشاعرة كريمة ثابت .. اضطرت للتخلص من المرارة .. من جراء ما رأت .. من (موائد أحمد الجعفري الملونة) .. وأن صديقي عافاه الله .. عبد الفتاح القاضي تدخل مشرط الجراح بقلبه بعد أن شاهد ما شاهد من (موائد الجعفري الملونة) ، وأن تلك الموائد .. كانت السبب في الزلزال الذي شق قلب الأرض في تركيا وشمال سوريا .. وأن مبادرة رئاسية شعبية تشكلت في ربوع مصر .. تهدف إلى حماية (محرومي الطشة) من تأثير (موائد الجعفري الملونة) .. لكن محبتي لأحمد الجعفري ومحرضه الأول أحمد خالد .. جعلتني أكتفي بهذه الإطلالة على أيام زمان ..