مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

الشاعر والباحث درويش الأسيوطي يكتب: من تلك الأيام "كسر الشوكة "

2024-04-28 21:25:49 -  تحديث:  2024-04-29 03:48:46 - 
الشاعر والباحث درويش الأسيوطي يكتب: من تلك الأيام "كسر الشوكة "
الشاعر والباحث درويش الأسيوطي

 الشوكة  هي وسلة الدفاع عند بعض الحيوانات والنباتات والأسماك و بعض الهوام، ومن الشوكات الشهيرة (شوكة العقارب)السامة، وشوكة (سمك القرقار) المؤلمة ، و(شوك النخل) الشهير بالسلاع .. و(شوك السنط) وشوك الليمون، وشوك المرير وغيره . ولترويض الحيوانات والهوام، والتغلب علي النباتات لابد من ( كسر شوكتها ). أي جعل شوكتها بلا فاعلية سواء بالكسر الفعلي أو بالكسر المعنوي. وشوكة الانسان هي قدرته التي تمكنه من منع الآخرين من هزيمته، أو الاعتداء عليه. وطالما ظل الانسان يمتلك تك القدره كانت شوكته قوية ، وحين يفقد تلك القدرة لسبب أو لاخر .. تضعف مناعته وتتراخى عزيمته، ويفقد القدرة على العدوان على الآخرين أو رد عدوانهم. وهذا ما رأيته بأم عيني فيما جرى بين أمي وخالتي ( لظيمة )    
 هي واحدة من أقارب أمي، فهي في النهاية من نفس العائلة، ومن المفترض أن أناديها أنا وأخوتي بالخالة، لكن لم يرد على لسان أمي ما يشير إلى الاعتراف بأنها من خالاتي. ولعل السبب أن أمي كانت تخافها. ولا أدري إن كانت تكرهها أم لا، لكن العلاقة بينهما لم تكن كما ينبغي أن تكون بين الأخوات والقريبات. فهي ليست خالتي، ولا تنتسب إلى جدي وجدتي لأمي، إذا لا ضرورة لمناداتها بالخالة. ومع كل تلك القناعات المنطقية  لم أستطع أن أنطق اسمها دون أن أسبقه بخالتي. فخوف أمي منها جعلني تلقائيا أخافها، وأخاف كل ما ينتمي إليها، بما في ذلك باب بيتها المظلم الذي يقع في نهاية (الدرب) الذي تغلقه (البوابة الكبيرة) على سكانه. ولذلك حينما تطيش الكرة التي نتقاذفها بين أرجلنا، وتصل إل عتبة بيت خالتبي ( لظيمة )، كنت اتهرب من الذهاب لجلبها رغم رغبتي في استئناف اللعب. 
       قد يبدو الاسم للقارئ غير الصعيدي، وربما لبعض الصعايدة أيضا غريبا، لكننا هكذا ننطق الاسم . فالاسم يبدأ بالنون المتحركة، تتحول (النون) فيه إلى (لام)، إذا تلتها حروف (الظاء والميم). فالاسم أصلا      ( نظيمة ) ولكننا حولنا النون إلى لام كما نفعل مع ( بلوك اللظام )، ولضم الإبرة ، ولضم الخرز  وغيرها من الألفاظ القليلة التي تبدأ بالنون ويتلوها الظاء والميم . 
 كان لخالتي (لظيمة) أبناء ثلاثة أشداء، وكان أبوهم قد سلحهم منذ بلغوا معه السعي بـ (الشوم) الذي يدكون به أرض الدرب الطويل دكا، عند دخولهم إلى بيتهم، وعند خروجهم منه. و كانوا كأبيهم وأمهم لا يبادرون أحدا بالتحية، وربما ردوها من غير نفس، ربما تعاليا، وربما بحكم العادة. ومما زاد من رهبتي من مواجهة خالتي( لظيمه )، أنني لم أرها تبتسم أبدا، رغم أن كل نساء الدرب يطلقن ضحكاتهن لتجلجل بلا حرج طالما الرجال بالغيطان. لم تكن خالتي (لظيمه) تحمل (الشومة) دائما كزوجها وأبنائها، لكنها تحمل ما هو أكثر إيلاما إذا ضربت به، وهو لسانها الذي يغوص في مستنقع التاريخ، لينتقي أقذر الألفاظ،، ومهين الشتائم، لتلقي بها على صاحبة أو صاحب النصيب . 
 كانت أمي تخشى العراك، فهي أولا أرملة لا رجل لها يتصدى للدفاع عنها عند اللزوم. ولا ترغب أن تورط أخوتها الرجال في مشكلة. وأعتقد أنها تخاف المشاجرات، لأنها فقدت في عركة كبيرة بين عائلتها وعائلة أخرى واحدا من إخوتها، صرعته رصاصة لم يعرف مطلقها، وكان هذا سببا في إعلان حالة الطوارئ لعشرات السنين في بيت جدي، طلبا للثأر، وعرفت أن جدي رهن قطعة من أرضه الغالية عليه، ليشتري (بندقية ألماني)  لم يستخدمها لا هو ولا أحد من أخوالي في عراك أبدا، وكنت أتقلدها خفية في مخبأها بالغرفة المظلمة، لأبدو كرجل بعيدا عن عيني أمي. ربما كان هذا هو السبب الحقيقي الذي كان يدفع أمي لتتراجع أمام السلوك المستفز لخالتي (لظيمه) وأولادها .. وتوصينا أن نبتعد عن طريقهم. ولا نرد عليهم الشتيمة مهما كانت . 
       لكن حدث ما تحذره أمي. فقد تعرض أحد أولاد ( لظيمه ) لأخي الأصغر، ربما سب أبي، فرد الصغير غيرة عليه بشتم (أبو أبوه)، وخوفا من بطش أولاد ( لظيمه) أندفع أخي إلي داخل البيت (بيت جدي) الذي كنا نعيش فيه، وأغلق الباب. وكنا جلوسا بالبيت أنا وأمي وأخي وخالتي الصغرى، حينما ارتطمت شوم لظيمة وأولاد لظيمه ببابنا. وكان أخي قد قص على أمي ما حدث، تخيرت أمي ( زقلة ) من خشب السنط، ربما كانت تحتفظ بها لمثل هذا اليوم، وكذلك فعلت خالتي، كانت أمي ترتعش كعود الغاب وقد تحول وحهها إلى ثمرة طماطم من الغضب، فتحت الباب وبيدها زقلتها، لتجد خالتي (لظيمه) وبيدها  شومتها متحفزة، لم تفه أمي بكلمة بل أغمضت عينيها ونزلت بزقلتها على رأس خالتي (لظيمه) التي سقطت مبهوتة الملامح ، غير مصدقة، كذلك تجمد ولداها،  شخرت خالتي لظيمه شخره واحدة وصمتت، وظنتها أمي قد ماتت، فتحولت ثمرة الطماطم في وجهها إلى برتقالة صفراء من الخوف ، لكن(خالتي لظيمة ) انتصبت على قدميها كالعفريت، تتأمل الدم الذي تفجر من أم رأسها، وسال على وجهها ، نظرت إلى أمي وخالتي ، وتراجعت وخلفها ولديها، وأغلقت باب ببتها دون أن يبدو عليها أي رد فعل لما حدث . 
 أمضيت وأخواي يومين بليلتين لا نغادر باب بيتنا، وفي الليلة الثانية دقت باب بيتنا خالتي (بخاتي)، لم تكن ترى جيدا لكنها تميز الناس من أصواتها، على الباب وقفت لا تريد الدخول. قالت لها أمي : خشي يا بت عمي ..  ردت خالتي بخاتي : إنتي حابسه العيال ليه ؟ قالت أمي: مش عايزه مشاكل يا بت عمي .. قالت بخاتي : اطمني .. لظيمه سابت البوابة الكبيرة .. 
 لم تصدق أمي ما فهمته، فقد تكون ذهبت لزيارة أحد وستعود، لكن خالتي بخاتي طمأنتها قائلة: لمت عيالها وعزالها .. وسكنت الجزيره. لم تصدق أمي وسألت: ليه ؟ قالت بخاتي : بعد ما كسرتي شوكتها .. ما عادلهاش قعاد في البوابه الكبيرة .. !!
 لم نر( لظيمه) ولا أولادها بعد تلك الواقعة، كل ما رأيناه، هو باب (لظيمه) ملطوسا بالطين، دليلا على إعلاق البيت غلقا نهائيا ( وتلييسه ) بالطين، إعترافا بالهزيمة . 
 هكذا انقطعت علاقتي بخالتي ( لظيمه) التي لم تدخل الدرب حتى ماتت غير مصدقة أن (البت السفيفة الصفراوية مرت المرحوم حنفي كسرت شوكتها .

مساحة إعلانية