مساحة إعلانية
كانت قريتنا كلها تناديه (ظرظور)، وكان عمي (حسن) يناديه (سرور).وكنت أرى أن اسم ظرظور أو ( زرزور ) أليق بالرجل لرقته وخفته وسرعة تنقله . لم أعرف اسمه بالكامل ولم أفكر في السؤال عنه. أدركته في نهايات أربعينياته كان ما يزال فتيا ، خفيف الدم ، سريع البديهة ، لا يهدأ. لم أشاهده جالسا في الظل صيفا، ولا متشمسا بالضحى شتاء .. لم تكن له مهنة محددة ، فلا ارض له ولا حرفة يدوية، ملامحه التي تخالف ملامح أبناء قريتنا تشي أنه غريب. وهو بالفعل كذلك. لا أعرف من أين جاء جده أو أبوه ، لكنه ولد في قريتنا ، بل قيل لي أنه تربى في بيت جدي الشيخ بخيت ..أو بمعنى أصح في بيت أبناء الشيخ أجدادي درويش وجعفر وعبيد الله .. وكانوا من المزارعين أصحاب الأملاك.. وآمل ألا يتبادر إلى ذهنك أن جدي درويش مثلا كان من أصحاب العزب والإقطاعيات .. لا .. قريتنا الفقيرة لم تعرف هذا اللون من الملكيات .. فأقل ملاكها شأنا لديه بعض القراريط وأغناهم لا يملك أكثر من عشرة أفدنة ..
وكان جدي (جعفر) أغنى أبناء الشيخ بخيت .. فقد اشترى معظم أرض من هاجروا من الأشراف إلى ( البحيرة ) أو السودان.. ومع ذلك إذا رأيته بملابسه البسيطة غير المعتنى بها تقول أنه أحد خدمه صحيح أن جدي الشيخ بخيت أعتق آخر عبيده قبل أن يموت .. لكن لأبناء الشبخ من يعاونهم في زراعة أملاكهم وقضاء حوائجهم . وكان محمد ظرظور أدومهم على خدمة آل البيت .. حيث أعطت له العائلة ( الأشراف ) أو ( الشرفا ) - كما يقولون في قريتنا- قطعة من الأرض ملاصقه لدورهم بنى عليها بيته وتزوج واستقر .. وأنجب أولاده .. وصار واحدا من العائلة ..
كان (محمد ظرظور) نظيف الملبس ، فإذا سمع بقدوم ضيف أو بزيارة لكبير أو مسئول ، لبس أنظف ملابسه وتهندم وتأنق، فإذا رأيته ظننته صاحب شأن، أو عمدة القرية أو شيخها ، أو أحد رؤوس العائلات الكبيرة .. وكان يمتلك جرأة في مخاطبة الغرباء ، وكانت سرعة بديهته وخفة روحه وطلاقة لسانه تنجيه من أضيق المزالق والمسالك ، رغم عدم معرفته بالقراءة والكتابة بشكل جيد. وكان كبار العائلات إذا خطر عليهم ضبف مهم، أرسلوا (لظرظور) ليقوم بمؤانسته والخدمة عليه . وكان الرجل لا يتأخر .. لم يكن يطلب شيئا .. لكنه كان لا يرد يدا تمتد إليه برزق ولو كان يسيرا . ولم يكن باب بيته الذي تعود أن يقف أمامه. وتجلس أمامه زوجنه التي تبدو أكبر سنا .. يغلق أبدا .
حين اعلنت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل الحرب على مصر ، وهاجموا بورسعيد عام 1956، رأيت (محمد ظرظور) في ملابس الحرس الوطني أو المقاومة الشعبية ، يدرب شباب القرية المتطوعين على ( صفا وأنتباه وارقد وانهض وكتفا سلاح وجنبا سلاح ..وتمام يا أفندم ) . ربما إكتسب تلك المهارات أثناء خدمته بالجهادية قبل أن أولد .
العمل الذي التصق به وداوم عليه هو عمل ( المنادي )، ولم أعرف مناديا بعده رحمه الله. فهو الممثل الإعلامي الشرعي والوحيد لأي عمدة في قريتنا . فعندما ترسل الحكومة إشارة مثلا إلى عمدة القرية تفيد بموعد ملء الأحواض الستوي بماء الفيضان ، يرسل عمدة القرية إلى (ظرظور) لينادي بذلك في القرية :
[ يا ناس البلد يا ولاد الحلال ..
مية الغراق هتتفتح الخميس الجاي ..
الطايب وقعوه
والأخضر فبوه ..
والمشهل كسبان
والمقصر خصران وندمان ..
واجرك على الله يا ولد الحلال ] .
وإذا ضل طفل أو دابة أو بهيمة طريق البيت، يسارع والد الطفل أو صاحب الدابة أو مالك البهيمة إلى (محمد ظرظور) ليصحبه وهو ينادي ينادي في القرية :
عيل تايه يا ولاد الحلال
لابس جلابيه نهضه خضرا
وأجرك على الله يا ولد الحلال
وكان الموعد المناسب للنداء هو فبيل مغيب الشمس، حتى يكون كل أهل القرية قد عادوا إليها من حقولهم أو أسواقهم أو مشاويرهم . والمدهش أنك كنت تسمع صوت (محمد ظرظور) المميز من أول القرية وأنت في آخر دروبها ، ومع ذلك كان الرجل يحرص على المرور برؤوس الدروب المفضية إلى طريق تحت البلد الرئيس . ولم يكن يحصل الرجل على مقابل من صاحب طلب النداء بشكل فوري ، بل كان يأخذ ككل أصحاب الحرف ( عليقته ) من كل أصحاب الحقول في القرية ملاكا ومستأجرين .. قتاية قمح .. شادوف قيضي .. ربع بلح .. بطيخة .. شوية بصل .. وهكذا .. وقد لا تندهش إذا علمت أن ما يدخل بيت (ظرظور) من أي محصول يكفيه للموسم التالي .
أما أغرب المهام التي قام بها ( محمد ظرظور ) فكانت بتكليف من ابن عمي رحمه الله ( فاروق فؤاد جعفر ) ، كان شابا يتعلم في الأزهر بأسيوط ، وكان يفاخر أمام أقرانه طلاب الثانوي الأزهري بجده (جعفر بخيت ) وما يملكه من أرض ، وما لديهم من مواشي ، وما يكتنزه من مال . وقرر الخبثاء أن يروا ( جده جعفر ) هذا، فطبوا عليه على حين غرة زائرين ..
ولم يكن ببيت جدي (جعفر) مكانا يصلح لاستقبال الضيوف .. وكانت (منضرة العائلة) شبه مهجورة لرفض جدي جعفر الباقي على قيد الحياة من أبناء الشيخ بخيت تمويل إصلاحها .. ماذا يفعل الشاب ( فاروق ) ..؟ استقبلهم في منضرة عمي ( حسن درويش ) الخاصة .. وكانت المشكلة أن جدي جعفر لا يجدد ملابسه ولا يعتني بهندامه ..ولا يعرف الكلام إلا في الأرض والزرع والقلع .. تفتق ذهن الشاب( فاروق ) عن فكرة رائعة.. اتفق مع (محمد ظرظور) أن يشخص دور جده ( جعفر ) أمام ضيوفه كما يراه أو يحب أن يراه (فاروق) إبن عمي .
ولم يتردد (محمد ظرظور) كعادته للحظة، بل ارتدى ملابسه النظيفة ، ولف عمته بطريقة أولاد الذوات ، ودفع باب المنضرة بعصا خيزران سويسي رفيعة ، وعلى كتفه عياءة من وبر الجمال الأحمر لا أعلم من أين جاء بها ، وقف بالباب .. نهض الطلاب غير مصدقين ، فقد كانت صورة الرجل في أذهانهم أقل من هذا بكثير .. لم ينطق أحدهم بكلمة .. فلم يترك (محمد ظرظور) لأحدهم فرصة الكلام .. فقد أقام مسرحا .. استخدم فيه عيال درب الأشراف ومن يمر من رجالهم ..( يا ولد .. قول للخدامين يجهزوا الصفرة .. والا أقولك .. خاللي الواد (جابر) يجيب الغدا على الصينية.. البهوات ماتوا م الجوع .. وإنت يا ولد يا كمال .. مش لاقي جلابية نضيفه تلبسها .. روح خد الفرصه الحمرا مشيها شوبة .. وما تخليش حد يركب المهرة الصغيره .. ) .
هكذا كان محمد ظرظور يقول بجدية ..وكان الجميع يعرفون أنه يلعب دورا ما ، حتى وإن لم يفهموا مقصده كانوا يستمعون إلى ما يقول باهتمام مبالغ فيه .. ويردون على أوامره : ( حاضر يا بيه ) ...
وقبل أن يموت محمد ظرظور .. رأى من أحفاده من جرت في عروقه دماء الأشراف .. بعد أن تزوجت رسمية ابنته من عمي (كمال عبد الرازق) .. وتلك قصة أخرى ..