مساحة إعلانية
إلى نبيل وإسحاق، كيف وصلنا إلى هنا؟
بجنيهين فقط، ملقاة على الأرض، ضمن كومة من كتب الطبخ والملخصات، والدعايات الدينية الرخيصة، وكلها بجنيهن فقط، لمحتها عينى وميزتها، كأنها وجه تعلقت به طويلاً، وغاب ثم عاد، "ليس على رصيف الأزهار من يجيب"، جزء من عمرى الجميل، سحبتها ودفعت ساهماً، غادر عقلى اللحظة والسعر والبائع.
***
ومَا مِنْ نقطة ماء تستطيع وحدها أن تجعل الوعاء يطفح، لكى يطفح الوعاء، فإنه يحتاج إلى عدة نقاط ، كان التقاط الرواية هو نقطة الماء الزائدة التى جعلت الوعاء يفيض، يفيض بالذكريات والقلوب، والحيوات التى تقف على الحافة، وبرغم كل شىء تملك مشاعر غير قابلة للصدأ.
***
فى نهار حار جداً، فى عز حَرّ أغسطس، فى قنا، فى حجرة ليس فيها سوى الحيطان، وحصير بلاستيك مفروش على الأرض، ودكة من خشب السنط، بمساند ظهر من قماش مهترئ قديم، والعرق يحرق العين ويخمل الروح، قرأت: "ليس في رصيف الأزهار من يجيب" كان الكلام أكبر من عقلى ومن عواطفى، لكن بقى منه شىء، بقى منه أثر مؤرق وعميق، سيصبح فيما بعد رغبة حارقة فى الاقتحام، بقى:
"فى سن السابعة عشرة يحتاج المرء إلى لقب، ولكنّ للبراءة أوجه نبالتها، فهى موجودة تؤكد ذاتها قبل صيرورتها".
بقي كذلك:
"مونيك تعرف أن تكون جميلة.. ها هى تتجرد من حشمتها وتندس فى الليل، إن مشد نهديها وردى، والكرز وردى كذلك، أما الصمت فلا ينطوى إلاّ على الحب. وينتهى الشعر".
وما زال فى القبر أثر:
"وتنظر مونيك إلى صدرها، وعلى الرصيف ينظر خالد إلى السنين، وتلامس مونيك خصريها برفق، كما لو كان خصراها هما السنين، ويسقط القناع فتبرز المرأة، فهى تعلم أن بطنها قربان، وأن فخذيها تنتظران سيطرة الإمبريالية التى لا تأتى إلاّ من القوة".
***
صارت الصفحات طيوراً طيبة، وأصبح الهواء الذى لا ينعش، ينعش، وكل شىء تحول إلى كلمات، الكلمات التى تحمل القلب على محفة من شوق، وأسى، من حنين وخوف غامض:
"شكراً على مجيئك يا مونيك، فما كان يجب أن تحضرى".
ذلك الكلام لم يعرفه عالمى هنا، لكنه يشرح عالمنا هنا، وكأنه يهيؤنا لأيام ثقال كثيرات مقبلة، لقلوب نرغب فى نظرة منها ولا تعرفنا، لأرواح ضلت على رغمها تودُّ لو تحضن أعماقنا وأوقاتنا، لكنها عبرتنا ومرّت.
***
أنا لا عرف "مالك حداد"، وليس فى مقدورى - وقتها - أن أعرف، لكن إسحاق روحى، ونبيل بقطر، زارانى فى ظهيرة حارقة وأعطيانى: "ليس فى رصيف الأزهار من يجيب"، وضعنى إسحاق فى التجربة، خالف تعاليم مسيحه: "لاتدخلنا في تجربة "وألقانى فيها، أكابد شيئاً مجهولاً، يأكل أحشائى وقلبى، وإذا نمت صحوت مفزوعاً، يخلط قلبى بين عقارب صيف الصعيد، وعقارب تحت الجلد لا ترحم، إسحاق الذى لا يعرف ماذا فعل، يمشى فى الأسواق، ويصر على قراءة أنيس منصور، ويتركنى مع خالد بن طوبال، ومونيك، والسياسة والإمبريالية، والمسافة التي تحرق قلوب المحبين، لأنهما من عالمين مختلفين، مع أرواح ومحبات غائرة.. شكراً يا إسحاق، شكراً يا نبيل:
" إن الصداقة فى السابعة عشرة من العمر تعنى شيئاً جديراً بالاعتبار، إنها فى بداياتها ضرب من الحماس (قل: الحماسة).. أما هذه الصداقة فقد ولدت على استحياء، كما يفقس الدويرى دون ضجة، إلا أن دويرى السابعة عشرة تخامرها رغبة خفية فى أن تصبح نسوراً". الرواية.
***
هناك قلوب تعبِّر بالكلمات، وقلوب بلاغتها النظرة ، وثالثة معجزتها أحضان ندية، وبكى الذى يقرأ "ليس فى رصيف الأزهارمن يجيب"، تعصره رائحة الطين والتراب، وذباب الصيف وحره الذى فوق قدرة الجِلد على المقاومة، ومع ذلك نجوت، رافقت شخصيات وخيالات ونجوت، وها أنذا يا إسحاق، ها أنذا يا جمالنا البائد، يا توقنا إلى تلويث قلوبنا وفشلنا، وهوسنا بالكتب، ها أنذا فى يوم من أيام أغسطس، وأنا أقترب من الستين، أنحنى على الأرض لألتقط "مالك حداد"، وأزهاره ورحيقه وجزائره وألمه ونضاله، ألتقط كل ذلك من فوق رصيف الإسعاف بجنيهين فقط لأعود إلى تلك الليالى والنهارات المؤذية، الليالى والنهارات التى عبرناها، ولا نعرف كيف.. كيف وصلنا إلى هنا.
***
كانت مشاعرنا نقية وغبية، تسير فى اتجاه واحد: أن العالم خلق لنا، لم نكن ارتكبنا بعد زلة، إثر زلة، لم تكن الزلات قد غيرت وعينا، أو صدمتنا فى أحلامنا، التى هى وقتها بحجم محبة نبيل بقطر، وشاى أمه الأسود، أو تونة أم إسحاق، وخبزها البائت "التارس"، كان آخرنا، عندما نقول إننا عشنا، شارع "البوسطة"، أو مقهى محطة القطار، نراقب المغادرين، وتتعلق أعيننا بالقطارات، هذه زلاتنا التى تعاقبنا عليها أمهاتنا وآباؤنا، ثم نعود لنحكى عن "مونيك"، وجمال خالد بن طوبال، وليس فى رصيف الأزهار من يجيب.
***
الآن أعرف أنه فى قلب كل هذا الطين والتراب والزحام المعقد للأحلام المحبطة والخيالات الميتة، وسط هذه الخرائب التى منحناها معنى، والطرق التى أعطيناها أسماء، أعرف أنه يوجد عظماء مروا على الطرق نفسها، ورأوا أنفسهم خارج الإطار نفسه الذى خرجنا منه وعليه، اكتشافنا المبدئى للصداقة، رغبتنا فى أن نكون نسوراً، البحث عن الذات والعزاء عثرنا عليهما فى الكتب، فى الرجل الذى مثل لنا نافذة ضوء: "عم إسماعيل"، الذى كان يدور بعربة الجرائد والكتب، يدفعها أمامه، عندما كان يقف أمام مدرسة "فرشوط الثانوية الحديثة"، أو عندما نذهب إليه على "الخور"، فى كشكه الذى هو الدنيا وما وراء الطبيعة بالنسبة لنا، وبه ومعه، وبصوت إسماعيل هيأنا أفراحنا، متجاهلين ما قاله خالد بن طوبال لنفسه وهو ضائع فى شارع بونابرت: "لا تهيىء أفراحك".
لم تكن قراءتى الآن للرواية سوى صرخة غضب يائسة، وبطريقة ما إذا تأملتها لم تكن سوى عناق ناعم ودامع لكل لحظة قضيتها وسط الكتب وحيدا، يظن الناس أن به مساً من الجنون، الكتب التى جعلتنا ما نحن عليه، وأوصلتنا إلى هنا، هذه الأيام، هذه الرواية، هي ما جعل مني كاتبا أتعامل مع كل هذا الألم، وكل هذا الياس، وكل هذا الجمال.

