مساحة إعلانية
ظهر في حياتنا الأدبية في أواسط الثمانينيات شاب موهوب يكتب قصيدة التفعيلة بصورة لا بأس بها ، ولكنه كان إذا اقترب ممن يكتبون أو ينقدون ، يفتتن بغرائب كتاباتهم وتنظيراتهم الموغلة في الإغراب والغموض ، وحدث أن ضمنا لقاء شعري كبير في محافظة دمياط لا أذكر له تاريخا الآن ، وكانت إقامتنا في رأس البر ، وكان من المشاركين فيه المرحوم الشاعر محمد عفيفي مطر ، فكان صاحبنا ذلك الشاب يلاحق مجلسه ويستمع إلى مُجالسيه ، في حين كانت مجالسنا نحن – بعض أدباء الصعيد – تتجنب كثيرا من تلك الجلسات المتخمة بالتنظيرات المحلقة في أجواء الغموض واللامعقول .
وذات ليلة اقترح أحدنا [ ولعله عزت الطيري ] أن نورط ذلك الشاب في أزمة مفتعلة ، فجاءنا الصديق القاص المرحوم خيري السيد ابراهيم بمسجِّل وشريط تسجيل وتظاهرنا بأننا نسجل ندوة عن أحدث المدارس النقدية ومنهجيتها ورؤاها ، ونصوصها في وجود ذلك الشاعر الطموح بيننا ، فتحدثت أنا بأن أحدث تلك المدارس تسمى المدرسة الزازية [ نظرا لأن حرف الزاي يأتي بعد حرف الدال والذال والراء في الترتيب الأبجدي ، والدال تنتسب إليها المدرسة الدادية ذائعة الصيت آنذاك ] وأن منهج الزازية شديد الاحتفاء بالموضوعية المطلقة ، حتى إنهم ينقدون النص أولا ، ويحللونه ، قبل قراءته وتأمله !!
خشية أن يقرأوا النص أولا فيتأثر نقدهم له بانطباعهم نحوه !!
ولم يظهر على الأصدقاء درويش الأسيوطي وعزت الطيري وخيري السيد أي تأثر أو ملامح لضحك مكتوم يريد أن ينفجر ، وبدأ درويش الأسيوطي يتلو علينا ما يتيسر له من نصوص المدرسة الزازية قائلا :
يا وجع الليل المتخثر
في أوداج أفاويق الغربة
من قبل..
....( وينقطع نَفَسُه )
فيكمل عزت الطيري:
من قبل استنزاف مواقيت الزنبقة
الملآى
بمجامر شوق
التنحية
الراكض ....
فيكمل درويش :
الراكض في أعقاب مسافات الترحال
السوقي
لمسقط رأس
الشمس
الوسطى
فيكمل عزت :
عند حدود الناسوت اللاهوتي المتمرغ
في طين التسكاب ...
......
....
وممن كان يقاوم الضحك بصعوبة في تلك الليلة الراحلان العزيزان شاعرا العامية الأسوانيان حجاج الباي وفنجري التايه ، - رحمهما الله - ولعل أخانا الراحل الشاعر سعد عبد الرحمن كان معنا في تلك الليلة وشارك في هذه القصيدة .
وعلى أي حال ، كان القاص خيري السيد ابراهيم يدير الحوار كإذاعي محترف ، فكنا أنا والأصدقاء نتظاهر بالاختلاف الجاد المتجهم حينا ، والاتفاق حينا ، حول جوانب التنظير وفنياته وآليات تطبيقه حسب موروثات تلك المدرسة وقد نحتد وترتفع أصواتنا إمعانا في تمثيل الجدية !!!
والشاب / الفريسة ، المسكين ، البريء ، المتفائل ، المقبل على الحياة بدون مبرر ، ينقل بصره ودهشته بسرعة وذهول وانبهار من واحد للآخر منا ويكتب بسرعة فائقة بعض ما يثبت في أذنيه من هلفطاتنا .
فلما آنسنا منه اقتناعا بكل ما سمع ، أوحينا إليه أن يثير ما سمع في جلسات أخرى جادة مع زملائنا سكان المعسكر من شعراء مصر .
ففعل الشاب ، وعاد إلينا بعد يوم أو بعض يوم يقص علينا أن كل من سمعوا منه ما سمعه منا ، أكدوا له أن كل كلامه صحيح مائة بالمائة وأنهم قرأوا كثيييييييييرا عن المدرسة الزازية !!!