مساحة إعلانية
...أخذني الدكتور عبد الحميد الفلسطيني في سيارته إلى بيته بعد انتهاء يومنا الدراسي ، وهناك رحب بي ترحيبا كثيرا ، وعرفني باليافعين من أبنائه ، وبقينا نثرثر إلى أن جيء لنا بالطعام ، حكى لي الدكتور يومها عن معاناته وهجراته المتكررة للعمل خارج وطنه ، وعن المضايقات التي يتعرض لها ، هو وكل فلسطيني ، يوم عودته إلى منزله في القدس أو الضفة الغربية .. طالت جلستنا عدة ساعات ولكنها كانت جميعا خلوا من أي كلام في النحو أو الصرف !!
ولكنني توقفت عند جملة قالها : " إنه يعتزم أن يؤلف كتابا في اللغة لم يسبقه إليه أحد منذ وُضعت قواعد اللغة العربية !! "
فقلت له : مثل كتاب فؤاد عبد الباقي رحمه الله ؟ [ معجم ألفاظ القرآن الكريم ] قال : نعم !
وأذكر أن قال لي يومها : حرام عليك أن تضيع عمرك مع علوم التربية التي يستطيعها كل أحد ، وتحول بدراستك إلى كلية الآداب لتخدم اللغة والنحو والصرف بنوع خاص ، فقلت له : قدر الله وما شاء فعل .
بعدها تصادقنا بقوة ، وكنا نترك مكاتبنا ونذهب لمكتبة الكلية فنقضي بها ساعات طوالا نتجادل في النحو ومسائله الشائكة ، والصرف وألاعيب الصرفيين العجيبة ...
وأتذكر أن عميد الكلية الشيخ سالم مصطفى الحامدي جاء إلى قسمنا أواخر العام ووقف على الباب وقال لي : أنت يا شيخ مصطفى قدمت استقالة ليه ؟ نريدك أن تبقى معنا ، فقلت له : لقد وعدت عميد كليتنا بأن أغيب عاما واحدا ولا أجدد ، وأعدكم لو كتب الله لي السفر ثانية سأطلب أن يكون لأبها ولكلية المعلمين بها بنحو خاص، فتبسم ... ونظر إلى رئيس القسم ( د. محمدين) وانصرف . فلما سألت د. محمدين عن معنى ابتسامته ونظرته إليه قال : هذه أول مرة يتوجه لمكتب أحد المتعاقدين ويطلب منه البقاء !!
وكان من عادة عميد الكلية الشيخ سالم مصطفى الحامدي أن يقيم في آخر العام حفلا لتوديع من انتهت مدد إعارتهم ، أو أنهيت خدماتهم ، وتكريمهم ... وأذكر أنني في ذلك الحفل قلت قصيدة أعجبت كل الحاضرين ، وفي نهاية الحفل والكلمات ، رأيت – والله على ما أقول شهيد – الدموع في عيني د. عبد الحميد الفلسطيني ، فلما اقتربت منه وتحدثت إليه قال : هذه أول مرة أحزن من قلبي على فراق مصري من هذه الكلية ...كان يقول هذا وأنا أردد في داخلي مقولته القديمة : " إنه يعتزم أن يؤلف كتابا في اللغة لم يسبقه إليه أحد منذ وُضعت قواعد اللغة العربية !! "
وبعد سنوات طوال رأيت في معرض القاهرة الدولي للكتاب كتابه الفريد [ معجم الأدوات والضمائر في القرآن الكريم ] الذي لا مثيل له من قبل ، والذي يكمل كتاب فؤاد عبد الباقي رحمه الله ..
وأرجو من أصدقائي الأردنيين على هذه الصفحة أن يفيدوني بعنوان هذا الرجل إن كان ما يزال حيا يرزق ..
وبعد ذلك أعود للحديث عن رئيس قسمنا الدكتور محمدين يوسف الذي كان يقول كلما سألناه عن سنواته الطوال في السعودية مستشهدا بشطر بيت قديم : " ........ وإني مقيمٌ ما أقام عَسيبُ !! "
و نلتقي في الحلقة رقم 6 إن شاء الله