مساحة إعلانية
"أبو نصر الفارابي" أعظم فيلسوف مسلم مزج الأخلاق بالسياسة وتقديس العقل والمعرفة وتحرير النفس من قيود المادة وأغلالها.
وهو واحد من أولئك الذين تعبت أجسامهم في سبيل أهدافهم، ومن الذين سخروا حتى من الفقر ألد أعداء الإنسان وقد عرف كيف يتغلب على متاعبه بصبره وقوة إرادته وسلوكه السبيل القويم وعرف كيف يتبوأ مكانة شهد له بها القريب والبعيد وساعد على الوصول إليها إلمامه بكل فن وعدم احتفاله بأمر مسكن أو مكسب.
وليس أدل على هذا كله من أنه وهو الفقير المعدم كان يستضيء بقنديل لحارس في إحدى بساتين دمشق حتى صار كما قال عنه صاعد الأندلسي في كتابه –طبقات الأمم- فيلسوف المسلمين بالحقيقة.. وكان الفارابي قد قدم إلى الشام ليعيش بها بعد أن رحل من بلدته "فاراب"فيما وراء النهرين إلى بغداد التي أقام بها فترة من حياته.
وظل هذا العصامي يكافح قسوة الظروف ، واتصل شطرا طويلا من عمره بالأمير"سيف الدولة الحمداني" بحلب، وما كان أيسر الحصول على نعمه وماله لو أراد لكنه لم يكن يتناول من جملة ما ينعم به عليه سوى أربعة دراهم في اليوم يخرجها فيما يحتاجه من ضروري عيشه. ومع ذلك نجده يدعو الله فيقول من دعاء طويل: اللهم قو ذاتي على قهر الشهوات الفانية، وألحق نفسي بمنازل النفوس الباقية واجعلها من جملة الجواهر الشريفة الغالية في جنات عالية.
وما كان لهذا الفيلسوف الخالد أن يدعو إلى المعرفة دون أن يكون هو نفسه الكتاب الذي يقرأ فيه كل قارئ ما يريد.
ولقد روى التاريخ أنه دخل يوما على "سيف الدولة بن حمدان" ووقف، فقال له سيف الدولة: اجلس، فقال: حيث أنا أو حيث أنت؟
فقال : حيث أنت. فتخطى رقاب الناس حتى انتهى إلى مسند "سيف الدولة" وزاحمه فيه حتى أخرجه عنه وكان على رأس "سيف الدولة" مماليك وله معهم لسان خاص يسارهم به فقال لهم بذلك اللسان: إن هذا الشيخ قد أساء الأدب وإني سائله عن أشياء إن لم يعرفها فاخرجوا به. فقال له أبو نصر بذلك اللسان: أيها الأمير اصبر فإن الأمور بعواقبها!!
فعجب "سيف الدولة" منه، ثم أخذ الفارابي يتكلم مع العلماء والماهرين في كل فن، فلم يزل كلامه يعلو وكلامهم يسفل حتى صمت الكل وبقي يتكلم وحده ثم أخذوا يكتبون ما يقوله فصرفهم "سيف الدولة" وخلا به فقال له: هل لك أن تأكل؟
قال: لا، قال: فهل لك أن تشرب؟
قال: لا. فقال : فهل تسمع؟
قال: نعم. فأمر سيف الدولة بإحضار القيان فحضر كل ماهر في أنواع الملاهي، فخطَّأ الفارابي الجميع، فقال له "سيف الدولة": هل تحسن هذه الصنعة؟ قال: نعم.. ثم أخرج من وسطه خريطة ففتحها فأخرج منها عيدانا وركبها ثم لعب بها فضحك كل من في المجلس، ثم فكها وركبها تركيبا آخر فبكى الجميع، ثم غير تركيبها وحركها فنام كل من في المجلس حتى الحاجب فتركهم نياما وخرج!!
هذا هو الفارابي الخبير بكل فن والذي كان كثيرا ما ينفرد بنفسه ويجلس في دمشق عند مجتمع المياه ومشتبك الرياض حيث ساعدته هذه الشاعرية على تأليف كتبه الكثيرة في الفلسفة وفروعها..
ثم أفل هذا النجم سنة 339هـ بدمشق- بعد أن ناهز الثمانين- وصلى عليه "سيف الدولة" وأربعة من خواصه ودفن بظاهر دمشق في خارج الباب الصغير..