مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

الشاعر الدكتور مصطفى رجب يكتب:العقاد .. وتشريح نفسية البخيل !!

2024-11-10 01:44 AM - 
الشاعر الدكتور مصطفى رجب يكتب:العقاد .. وتشريح  نفسية البخيل !!
الشاعر الدكتور مصطفي رجب
منبر

     للعقاد مقالة بعنوان (البخيل) كان نشرها فى صحيفة (الشذور) عام 1915 ثم ضمنها كتابه ( الفصول) الذي صدرت طبعته الأولى عام 1922 ، يصف فيها واحدا ممن عرفهم من الناس ، ثم يعقب عليها بتحليله لنفسية ذلك البخيل الذي اتخذ منه بطلا لهذه المقالة / القصة .
وتكشف هذه المقالة- شأن كل نتاج العقاد- عن قوة تمكنه من المنهج النفسي فى تحليل السلوك الإنساني . وهو ما طبقه فيما بعد فى دراساته الأدبية لاسيما دراسته الشهيرة عن ابن الرومي. وسخرية العقاد من البخل تتخذ عدة أساليب فنية فهو يدير حوارا داخليا بين البخيل ونفسه , حين تحدثه نفسه أن  يقضى لها بعض شهواتها بقروش زهيدة ، فينظر إلى القرش نظرة العاشق الى معشوقه ثم يرده إلى الكيس الذى يجمع فيه قروشه قائلا وهو يحاور نفسه الهلوك:
 (( هذا القرش لو أضيف إليه تسعة وتسعون مثله لصار جنيها ، والجنيه يجلب الثروة العريضة ويجمع المال الحير ، وهبني تهاونت بإنفاقه اليوم وسمحت نفسي به فلا آمن أن تسخو بغيره غدا.فإنما القروش كلها واحدة فى القيمة وليس قرش بأغلى من قرش . والشهوات حاضرة فى كل وقت ، فكأنني أنفقت اليوم- بإتفاقي هذا القرش- جميع ما سوف أملكه وأدخره من المال. وفتحت على نفسي باب الفاقة الدائمة والعوز المستمر مطاوعة لشهوة حمقاء ، إن أنا وقمتها الآن ماتت واسترحت منها وان آتيتها على ماتدعونى إليه كل ساعة كنت كمن يرمى الوقود فى النار ليخمدها ، وكنت كمن يشتهى الفقر ويتمنى الإعدام ، وتلك والله الحماقة بعينها.))
     ويحكى العقاد عن صاحبه ذاك أنه اتخذ لنفسه صندوقا محكم الإغلاق له فتحة فى أعلاه يسقط فيها كل جنيه (وكانت الجنيهات آنذاك من الذهب) بحيث لا يستطيع أن يسترده من الصندوق بعد إلا بمشقة بالغة.
     فإذا اجتمع له من القروش مائة قرش سارع إلى تغييرها بجنيه ذهبي. ثم أسقط ذلك الجنيه فى ذلك الصندوق, فإذا سقط الجنيه فى ذلك الصندوق ، لا,  بل تلك الحفرة ! , كانت تلك اللحظة آخر عهده بالهواء والنور، وآخر عهده بالهبات والبيوع ، وآخر عهده بالأنامل والكفوف ، وهوى من ذلك الصندوق فى منجم كالمنجم الذي كان فيه . وشتان بين المهد واللحد ومات ميتة لا تنشره منها إلا يد الوارث إن شاء الله.،، 
     وبالطريقة نفسها يتخيل العقاد حوارا داخليا بين تلك الجنيهات الحبيسة فى الصندوق ، وكل منها يتحدث عن ماضيه . فهذا الجنيه كان عند رجل مسرف وذاك كان عند رجل سفيه... الخ وهاهو ذا القدر المحتوم يجمع بين تلك الجنيهات فى هذا السجن الأبدي الذي لا تبدو له نهاية.
وللضرورات أحكامها :
     ويحكى العقاد أن صاحبه ذاك البخيل ألجأته ضرورة من الضرورات – وناهيك بها من ضرورة كما يقول – إلى أن يفتح صندوقه ليقترض منه جنيها لقضاء ضرورته . فاذا به يقسم بالطلاق أن لا يدخل البيت إلا والجنيه معه . فيذهب إلى السوق ويكدح فيها طوال اليوم حتى يسترجع الجنيه !.
     ووصف العقاد للحالة النفسية للبخيل وهو يمد يده الى الصندوق ليقترض منه الجنية ، وصف دقيق فيه تشريح علمي عميق لنفس هلعة تتنازعها مشاعر متباينة من الإقدام والإحجام ، والكر والفر . يقول العقاد فى وصف هذا المشهد :
     ,, ولو أتيح لك أن تشهد ذلك البخيل وقد مثل عند صندوقه وأللجأته الضرورة الى الاستمداد منه – وناهيك بها من ضرورة- اذن لحبست أنك فى جنح الليل الأعكر سارقا ينبش القبور عن أكفانها ، وقد تملكة الهلع من حراسها وسكانها ، أو لحسبت انك تشهد كاهنامتحنثا يقوم عند صندوق النذور يهم أن يمد يده أليه فيتحرج من ان يستحل ودائعه لئلا يحل عليه قصاص الله ويحيق به غضبه ، فان ألحت عليه الحاجة أقسم أن لن ينام ولن يهدأ  أو يرد للصندوق ما استعاره منه. وقد لا تجد بين ألف كاهن كاهنا واحدا يقسم هذا القسم ويبر  به ، ولكنك لا تجد بين ألف بخيل بخيلا واحدا يحنث فى هذه اليمين.،، 
     ويغوص بنا العقاد في أغوار تلك النفس الإنسانية المظلمة ليفسر لنا سر اللجوء إلي الحلف بالطلاق بدلا من الحلف بالله تفسيرا كاشفا لأحط الغرائز الدفينة ، فاضحا لدناءة الدوافع التي تقف وراء هذا السلوك الرقيع فيقول العقاد:
     ,, وكآني بك أيها القارئ تظن أن الرجل آلي أقسم بالطلاق وحرص على أن لا يمين يحنث فيه وفاء لزوجه وضنا بذات فراشة واحتفاظا بأم بنيه ، فإياك ان تظلم الرجل بهذا الظن . ان الاحتفاظ والضن بشيء غير المال ضعف يربا بنفسه عنه. ولكنه تحرى أفدح الأيمان كفارة وأصعبها كلفة ، فرأى ان كفارة الحلف بالله سهلة وربما كان فى الصيام من الاقتصاد ما يغريه بالحنث كلما أقسم بالله . فاختار يمين الطلاق يهدد نفسه به ويخوفها من مؤخر الصداق ومؤنة الأولاد ومصاريف القضايا ثم لابد له من زوجة تكفيه نفقة الخادم وشراء الطعام من السوق ، وهذه الزوجة لابد لها من مهر قل أو كثر ، دع عنك الأعراس ( الزفاف) وما تستدعيه من الخروج عن العادة في الإنفاق ليلة أو ليلتين.
     فإذا آلي بالطلاق ذكر كل ذلك وأكثر منه فكان قيدا لا يستطيع منه فكاكا . ولا يفوته مع هذا أن يصانع نفسه بأنه من القابضين على دينهم الذين يجتنبون حدود الله ولا يلعبون بيمين كيمين الطلاق. والحقيقة أنه لا يجتنب حدود الله إلا لأن اجتنابها يوافق هواه . ولو كلفه خوف الطلاق معشار ما يصون من ماله لجار عن كل حد  لله وللخلق. على أنه لم يضطر يوما إلي امتحان دينه مرة فإذا استعار منه في الصياح سدد له الحساب في المساء.،،
     وتبلغ المقالة/ القصة ذروتها عند العقاد وهو يصف لنا ما انتاب ذلك البخيل من جزع حين ألح عليه المرض فلزم الفراش ، وجئ له بالطبيب فوصف له لحم الطيور، وهو الذي اعتاد على الأدنى من العيش ، فإذا به بالمرض يشتد عليه والطبيب يجهل أنه إزاء مرضين لا مرض واحد.
     ويبلغ العقاد الغاية من السخرية حين يلفظ بطل قصته أنفاسه فيتتبع العقاد مشاعره وهو راقد في قبره غير آسف على شئ إلا على ذلك المبلغ الذي أضاعه في لحم الطيور، ويتحسر على لجوئه للتطبب. يقول العقاد في هذا الموقف :
     " ومرض هذا البخيل مرض الموت فجزع جزعا شديدا ، وكان جزعه  لأنه سيموت عن أقل من عشرة آلاف كاملة ، وكان ذلك كل أربه من الحياة . واستحضر الطبيب بعد أن نهكته العلة ودب السقم فى أوصاله وعظامه ، فأمره أن يتعاطى دواء وأن يقصر طعامه على لحم الطيور. وكان صاحبنا على مذهب النباتيين اقتصادا لا فلسفة . فتملص يحايل الدواء ويتملق الطبيب عسى أن يعدل عن وصفته ، والداء يأبى إلا لحوم الطير والطبيب مصر على رأيه . ولما كان أربه فى العيش لم ينته والعشرة الآلاف لم تكتمل فقد رضي أهون الشرين  : انصاع لقول الطبيب وصار يأكل كما أمره وهو يتلهف ويتغصص ويتبع كل لقمة يزدردها بعملية حسابية ... وهل أصعب  فى الهضم من الحساب وأثقل على المعدة من الأرقام الصماء؟؟ ولم يزل يقول بعد كل أكلة: الله الله على الصحة !! لو كنت الآن  صحيحا أما كانت تكفيني أكلة بدرهم  ؟ !!
 فلم يسعفه الدواء ولم يبرئه  غذاء . وما ذاك إلا لأن الطبيب داواه بالطب الذى يداوي به الناس ووصف له ما كان بصفة لكل مريض مصاب بمثل ما عنده ، ونسى أنه يداوى  داءين  لا داء واحدا، وفاته أن داءين :  أحدهما  مزمن والآخر طارئ لا يصلحان بفرد دواء ، ولو سمعه كان يأسف على الصحة ولماذا كان يأسف عليها ،  لعلم أن صحة هذه البنية غير صحة سائر البنى وأن لها مرضا غير أمراضها ، وأن الغذاء الذي ظن أنه يشفيه ويقويه قد حز من بدنه ، فقد مات المسكين بدائه ذاك ، وما أحسبه ندم على شيء وهو يفارق هذه الدنيا ندمه على تلك الدراهم التي أطاع فيها الطبيب جزافا. !!  وماذا عليه لوقد عصاه فلم يفقد سوى حياته ؟؟ ! 
نفسية البخيل... ما وراءها:
     وإذا انتقلنا إلي تحليل العقاد – بعد انتهاء القصة – استطعنا أن نجمل عناصر شخصية البخيل من واقع تحليل العقاد فى النقاط الآتية:
1- إن البخيل شخص يجمع الله تعالى له بين صفتين متناقضتين هما: الغنى والفقر : فله من الغنى ميزة المال الكثير والثروة الهائلة . وله من الفقر : الإحساس بالحرمان من كل ما تشتهى نفسه .
2- وينكر العقاد أن يكون البخيل من جنس البشر إلا من حيث الشكل والبنية الخارجية، أما نفسه فهي لا تختلف عن أنفس الحيوانات الشرسة التي يتقيها لخطرها مثل الكلب العقور ، أو الخنزير النجس .
فيقول العقاد :" بيد أنني خلال صحبتي له كنت لا أستطيع ساعة أن أفكر بأنني أصاحب إنسانا  !!  له علي مثل الذي لي عليه ، وكنت أحمل نفس على أن تصدق أنه من البشر كما تراه عيني فلا تذعن . وكيف وهى لا تحس أدني اختلاف بين ملاطفتي إياه وملاطفتي الكلب أو القرد الأليف ليأنس بي ولا ينفر منى ؟!! ولقد ضل والله من يتألف الكلاب والقردة ويلهو برؤية الحيوانات العجيبة وعنده البخلاء يضمهم وإياه جنس واحد ومدينة واحدة فلا يتألفهم ولا يخف الى رؤيتهم،، !!
3- إن هناك خلطا في مفهوم البخل عند الناس فالناس،، يعرفون البخل بأنه الحب المفرط للمال " وهذا تعريف ناقص من جميع أطرافه. فهل العلاقة بين البخل والمال الا كالعلاقة السطحية بين العلم والأوراق ، وبين الشجاعة والسيف ، وبين الزمن والساعات ؟؟ وقد وجد البخل قبل أن تحتجن الأموال وتسك النقود ، كما سلف العلم قبل أن تصنع الأوراق ، وقدمت الشجاعة قبل ان تطبع السيوف ، ودار الفلك قبل ان تخترع الساعات . ولو أصبحت الدنيا قد انقرضت منها الأموال وفني من أيدي الناس الذهب والفضة لما قضى ذلك بفناء البخل من قلوب البخلاء ، لما قدمنا من البخل شيء بمعزل عن الأموال ،، .
4- فحقيقة البخل كما يدركها العقاد أنه عاهة نفسية تجعل صاحبها مخالفا للفطرة البشرية السوية ، فهو مخلوق عجيب كل حظه من الحياة أن يحرم نفسه من كل حظوظ الحياة ...!!  ويقضى عمره وجهده فى طلب الوسيلة( الثروة) ثم لا هو يقنع بالوسيلة ولا يبلغ بها الغاية المتوهمة وهي ( السعادة).!!
5- والبخيل مزيج من الجبن الدنيء الذي يصور الإنسان البخيل الخطر- وان كان مستحيلا  - كأنه قضاء ختم عليه لامفر منه ، والخسة التي تجعل الفخر والعيب يتساويان عند البخيل.
6- والبخيل يميت فى النفس كل أريحية ومروءة . فالبخيل لا تهتز في نفسه أمنية ولا عاطفة نحو آي شيء أو آي موقف يمكن آن يمس ثروته ولوكان المس مقوهما.
وصدق الله العظيم حيث يقول( .. ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) ( الحشر/ 9 ) 

مساحة إعلانية