مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

الشاعر الباحث درويش الأسيوطي يكتب: من تلك الأيام .. دائرةُ النشوَةِ المُوقَّعة

2024-05-06 00:40:58 - 
الشاعر الباحث درويش الأسيوطي يكتب: من تلك الأيام .. دائرةُ النشوَةِ المُوقَّعة
الشاعر والباحث درويش الأسيوطي

 لا أذكر على وجه اليقين متى تسرب الشعر إلى صدري .. ولا متى تلبس الشعر  لساني .. ولا أذكر بالتحديد متى تحدر من شفتي أغنيات وقصائد .. !! 
 أدركت ــ حين أدركت ــ أن كل شيء حولي في قريتي يغني ..!! الحقول ، والنساء ،والرجال والصبية ، بل وكثير من الطير والحيوان .. إن لصوت الهدهد لمذاق يختلف عن مذاق هديل الحمام وزقزقة العصافير مذاق ثالث  ..!! وكانت الريح وهي تمرغ جناحيها في حجارة الجبل  تعزف لحنا مبهما يروق لي،  ويأسرني ..  والسواقي تئنُّ فتترك في سمعي شيئا من التوق والدهشة ..بل والنشوة الموقعة . ولا تسأل عن الناس في قريتي .. فالغناء سلوتهم في صهد الصيف، ومعينهم على شاق عملهم ، وسامرهم في برد ليلات الشتاء .. 
 قبل أن أعي ما اللحن وما الإيقاع .. كنت على كتف عمتي (بخاتي ) أتابع رحلة أبي الأخيرة من بيتنا إلى مثواه الأخير،  طفلا دون الخامسة ، يطربني ذكر المودعين جثمان أبي ،  فأهز قدمي على إيقاع : 
 [ لا إلاهَا .. إلاَّ اللهْ .. 
 مُوحَمَّدْ رَسُولُو اللهْ ] 
 هكذا كنت أسمعها فأنتشي .. ولا أدرك سر نشوتي .. وربما كانت تلك النشوة المبتغاة هي التي جعلتني وأنا دون العاشرة أتابع الباعة الجائلين .. والشحاذين .. في دروب قريتي .. وقد أعود إلى أمي بضربة شمس من طول مكثي بعيدا عن الظل ،أنصت منبهرا إلى موال موجع، يردده عم أو خال وهو يجذب بإصرار يد [ البدالة ] ليصب الماء على قدميه قبل أن ينساب في [ الفحل ] متسربا في شقوق الأرض العطشى . 
 وقد أنكمش دامعا في فراشي ، وصوت أمي الذي يحمل لوعة الفقد، يردد ذلك الغناء البهي الموجع الذي عرفت فيما بعد أنه [ العديد ] . هذا الصوت الذي ما كادت لوعته تفتر لفقد أبي،  حتى جددها مقتل أحد أخوالي، في تلك المباراة العبثية في ملاعب الثأر . وحين يردفني جدي خلفه ، في الطريق الطويل إلى حقلنا البعيد  .. يغني .. فأستزيده فيقول : 
       [ يُومْ حَرْبْ لانْصَارْ  كَانْ حَاضِرْ عُمَرْ وعَلِيْ 
 فِرْحُوا الصَّحَابَا ..  وقَالُوا أَدِي عَلِي جَانَا 
 قَالُوا الْكَهَانَا  وينْ هُوَّه    عَلِي الْكَدَّابْ ؟
 نِزِلْ طِيرْ .. مِنِ فُوقْ السَّمَا ..   نَهَّابْ 
 خَطَفْ الْكِتَابْ .. مِنْ فُوقْ رَاصْ اللئيمْ وعْلِيْ .. ]
الله يا جد ...!!  
وتكتمل دائرة النشوة الموقعة بما يجري في [الرهبة ] في أمسيات الصيف من ذكر أو غناء ، وحكايا الجدات والخالات ، ومواويل الأجداد والأخوال ــ فقد فارقت بيوت أعمامي حين كفلنا جدي لأمي أطفالا ــ  بل إن ألعاب الصغار لا يغادرها الشعر .. ولا تفارقها نشوته الموقعة . لذا لم يكن غريبا أن يتسرب الشعر إلى صدري .. وأن يتلبس الشعر لساني .. وأن يتحدر من شفتي أغنيات وقصائد .. لم أعد أذكرها . 
 لكن الذي أذكره جيدا .. أن مدرس اللغة العربية بمدرسة [ طما الإعدادية الأميرية ] الأستاذ خضر رحمه الله ، بعد أن قلت في الإذاعة الصباحية المدرسية  :
 بطل العروبة وا  نسرها  فيك الرجاء ، وفيك الأمل 
 سموت بمصر إلى عزها  وأسست مجدا عديم العلل
 وسطرت بالدم فوق التراب  نموت نموت ويحيا البطل 
لم يجد أثمن من قلمه الحبر الـ ( تروبن ) الذي يفخر به ، وأهداه إلي تشجيعا لي على قول الشعر .. 
 وجرت في شقوق النفس كثير من بذور النشوة في صدري، والتي صاحبت سنوات التعليم في المرحلة الثانوية ، فقد شاء الله أن ينعقد مؤتمر القمة العربي الأول بالقاهرة وأنا أدرس في [ مدرسة قصر العيني الثانوية التجارية] ، وطلب منا الأستاذ عثمان رضوان الجندي .. مدرس اللغة العربية أن نكتب موضوعا بكراسة الإنشاء ، عن لاجيء فلسطيني يتحدث إلى مؤتمر القمة العربي الأول . 
وكنت لا أعد مسوَّدَةً لموضوعات الإنشاء، بل أعمد إلى الكتابة مباشرة بكراسة الدرس ، ثقة بنفسي ، وبدأت ببيت من الشعر ثم تلاه بيت فأبيات .. وهكذا تحول موضوع الإنشاء إلى قصيدة ..!! حملها مدرسي فخورا إلى زميله مدرس اللغة العربية [ كيلاني حسن سند ] الذي لم أره ولم يدرس لي .. ولم أكن أعرف أنه من الشعراء الكبار ، ولا أدري إن كان هو أم موجه اللغة العربية من كتب على هامش القصيدة مبشرا بموهبتي كشاعر .. !!
في هذه المرحلة فقط بدأت علاقتي بالمكتوب من الشعر .. بعد أن ارتويت منه شفاهة في قريتي على ألسنة نسائها  ورجالها وصبيتها . تعاقدت مع صاحب [ كشك ] الصحف الرابض قرب  باب مدرستي أن أحصل في أثناء دخولي المدرسة صباحا على جريدة الجمهورية اليومية وكل المجلات الثقافية الشهرية  وأردها إليه عند خروجي آخر النهار بعد أن أكون قد إلتهمت ما بها من أطايب الإبداع أثناء [ الفسحة الكبيرة ]،  وذلك في مقابل خمس مليمات يومية أو كما كنا  نسميها ( تعريفه أو نيكله) . 
لم يتيسر لي متابعة تعليمي منتظما في الجامعة ، فقد اضطررت  إلى العمل بالمؤهل المتوسط كاتبا ببنك التسليف الزراعي بالبداري ، لأعول نفسي ، وأشارك أمي تحمل مسئولية رعاية أخوين أصغر مني سنا ، لكني رغم قسوة الظروف واصلت نشوة الشعر .. ونشوة الدراسة منتسبا .. 
والمدهش أنني لم أكتب الشعر كثيرا أثناء دراستي بالمرحلة الثانوية ، بل كتبت القصة القصيرة ، حتى بعد تخرجي وعملي بحسابات بنك التسليف لم أتوقف عن كتابة القصة القصيرة .. ونشرت بعضها في زوايا بريد القراء .. وفي صفحة أستاذي [ محمد جبريل ] متعه الله بالعافية .. بجريدة المساء . ثم في لحظة من اللحظات الفارقة .. جمعت كل ما كتبته حتى عام 1965 وأحرقته .. فقد تبين لي ركاكة ما كتبت .. وضحالة ما سطرت .. وواصلت القراءة .. في المكتبات العامة .. وعاد إلي الشعر .. وكان لمحسن الخياط رحمه الله الفضل في عودتي إلى الشعر .. فراسلته بصفحة  أدباء الأقاليم بجريدة الجمهورية .. ونشر لي بعض تجاربي الجادة التي رضيت عن بعضها .. 
استدعيت للخدمة العسكرية .. وكنت قد أعددت مسودة لديواني الأول .. وطلب محسن الخياط من الطيور المهاجرة كما كان يسمينا .. أن نجمع ما كتبناه عن معركة أكتوبر 1973 ، وتعهد بنشر مجموعة شعرية للمتميزين .. وكنت في عجلة من أمري .. فمررت بمقر جريدة الجمهورية وأنا في طريقي لمنطقة التجنيد بالحلمية .. وسألت عن الأستاذ محسن الخياط .. ولم أجده .. فتركت له في الاستقبال .. نسخة  مسودة ديواني ليختار منها ما يشاء .. وجندت .. وأمضيت فترة التدريب .. 
وفي أول إجازة لي .. أثناء عودتي من القاهرة .. توقفت كالعادة أمام بائع صحف .. وجذب انتباهي غلاف كتاب وردي اللون عليه رسم لحمامة بيضاء .. وعليه  اسم [ أغنية لسيناء ] وحينما مددت يدي والتقطته .. كاد يغمى علي .. فقد وجدت عليه أسماء الشعراء [ فوزي خضر ودرويش الأسيوطي وصلاح اللقاني وعصام الغازي .. ].. لقد فعلها الرجل النبيل .. إختار القصائد .. وصحح ما بها من أخطاء .. وتعهدها حتى نشرت .. 
منذ تلك اللحظة .. تغيرت في حياتي الكثير من الملامح .. قررت هجر عمل البنك إلى العمل بالتربية والتعليم .. طمعا في الإجازةالصيفية التي تتيح لي فرصة القراءة والكتابة .. بل وتوقفت عن إعداد رسالة الماجستير في إدارة الجمعيات التعاونية .. فلم تعد تستهويني دراسة العلوم التجارية .. وركزت إهتمامي على  الشعر والمسرح كتابة وقراءة .. والتراث الشعبي جمعا وتأويلا وتفسيرا . 
وأظنني لم أخيب ظن استاذي ــ محسن الخياط رحمه الله ــ بي .. وواصلت ما أحب لي أن أواصله.  فقد نشرت قصائدي في كل المجلات الثقافية وربما غير الثقافية  المصرية ..ومعظم الدوريات العربية الثقافية .. بل والمواقع الثقافية الإلكترونية ..وجمعتها في دواووين ..  بل ونشر لي صديقي الشاعر سعد عبد الرحمن أعمالي الشعرية الكاملة بالهيئة العامة لقصور الثقافة ..   ولم تفارقتي نشوة الشعر .. رغم ما يزيد عن سبعين عاما من العناء .

مساحة إعلانية