مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

الشاعر الباحث درويش الأسيوطي يكتب: من تلك الأيام .. أنا والقرية و الشعر

2024-05-08 04:55:53 - 
الشاعر الباحث درويش الأسيوطي يكتب: من تلك الأيام .. أنا والقرية و الشعر
الشاعر والباحث درويش الأسيوطي

حين أدركت ما هو الشعر ، كان الشعر في قريتي يتناثر على الألسنة، ويتحشرج  في الحلوق الجافة . في أيام الخدمة ينهمك أخوالي في الحرث والتطويش، والري، ، والخف،  والتوريق، والحصاد والجني ..وننهمك نحن الصغار في الصيفة، وجمع المتساقط من التمر. وجمع الجذور بعد العزاق  ، وصيد السمك من النقر والمساقي  . ومع صعوبة الأعمال ، تتصاعد الأنات والأمنيات غناء مصاحبا للعمل، ومهونا من مشقته، وما زلت أذكر صوت خالي (ياسين)  يتغنى باسم زوجته : 
يا نقيه يا أم الغوايش 
مانستيني المعايش ... 
 وتختلف الأغنيات باختلاف نوع العمل. فهناك غناء للعود ( الشادوف )، وهو غناء قصير .. لاهث يتناسب إيقاعه ككل أغنيات العمل مع إيقاع  الشقل على العود . كان يقول :
( جرحي من المي
مكران علي ... ) 
 وغناء للبدالة (الطنبور) هو عادة  من فن الموال : كأن يقال : 
يا حلو ياللي جمالك يسحر الألباب 
وأنا قتيل المحبه منطرح   ع الباب 
من جرة الرمش يا حلو انجرح قلبي 
وعمره يا ناس جرح الهوى لم طاب 
أما غناء للساقية والنورج والمحراث وحداء الجمالة،  فهو لون واحد لأنه يغنى خلف حيوانات العمل ، يؤدى بطريقة خاصة،   كان يقول حاديا : 
يستاهل الصباغ كسر   دنونو 
إللي صبغ لابيض وغير لونو 
 ويختص جني القطن بمجموعة من أغنيات الجني والحصاد المتنوعة الإيقاع ، والتي تشارك فيها البنات الصغيرات والصبية ،  وربما الكبار المشرفون على ( شدة جني القطن) . كان يقال : 
 وحمامه بيضه على التايه 
 وعوافي يا بت يا جنايه 
       أما متى جمع المحصول وعم الماء الأرض أو كاد في موسم الفيضان .. فهنا تتفرغ قريتي لمهمة مقدسة هي  مهمة تكوين الأسر ، وبالطبع كانت حفلات الزواج والطهور الطويلة تمتد أحيانا لأربعين ليلة ( بالمناسبة كانت فترة الحداد وقتها أربعين ليلة ). وكانت حفلات الزواج والطهور حافلة بالغناء والرقص . وأشياء أخرى . من تلك الأشياء الأخرى معابثة الشباب للبنات المدركات .. والفرجة على (أبو عجور) الذي يذكرك بآلهة الخصب عند المصريين القدماء بطول عضوه المصنوع من قماش أحمر اللون  محشو بالقطن أو الهرق القديمة ، ومثبت بعناية في وسط اللاعب . والمدهش أن أهل قريتي من الرجال والنساء لا يجدون في الفرجة عليه ما يخدش الحياء، فهو (تشخيص)، وكان أبو عجور ينطق بلسانهم وبآمالهم وآلامهم . 
 فإذا نفدت الأموال ، وانقطعت حفلات الطهور والزواج ، نُصب السامر في الرهبة، وتبارى الفلاحون في فك ما تعقد من الألغاز الشعرية،  والمربعات المقفلة، والمواوويل المجنسة . وكان جدي عبد الغني – رحمه الله – يحبها ويطلب مني محاولة حلها بعد أن لمس اهتمامي بما أسمعه . 
 ولم تكن المباريات الشعرية أو المساجلات أو ما يسمونه الفرش والغطا المتعة الوحيدة ، بل كان الشاعر المتغني عادة بسيرة أبو زيد الهلالي وذات الهمة ( دالهمه ) وموال الدرس، وقصة أحمد البدوي مع فاطنه بنت بري ، وأيوب وناعسه،  والزير سالم ... يمتطي المصطبة أو الدكة أمام المنضرة الكبيرة مطلا على الرهبة ، 
حيث يجلس رؤوس القوم على الدكك الخشبية المفروشة والمرشوشه  ، ويفترش الشباب التراب الرطب ، أما الأطفال، فمنهم من يفترش الرهبة كالشباب ، ومنهم من يستلين لحجور الأمهات والجدات الجالسات في مداخل البيوت المطلة على الرهبة الكبيرة . 
  ولما لم يكن لي بين الشباب أخ أو عم أو ابن عم، فكنت ألوذ بحجر جدتي ، ومن مكمني كنت التقط يأذني الشعر .. بل وما يدور من سرد وتشخيص . بل كثيرا ما ألتفت إلى تعليقات النسوة وغمزاتهن وثرثارتهن الفجة .

مساحة إعلانية