مساحة إعلانية
منذ اندلاع الصراع الأخير في الشرق الأوسط بدا واضحا أن لغة القوة فقدت بريقها وأن منطق العواصم الكبرى لم يعد كافيا لتفكيك ألغام المنطقة أو هندسة حلولها. وسط هذا المشهد الملتبس كانت القاهرة تتحرك بخطوات واثقة دون ضجيج ودون أن ترفع شعارا واحدا أكثر من اللازم لكنها كانت تصوغ مشهدا جديدا بالكامل: سلام يصنعه الفعل لا القول.
الولايات المتحدة التي اعتادت أن تتصدر كل مسرح دبلوماسي في المنطقة وجدت نفسها هذه المرة تتابع الأحداث من المقصورة الخلفية تحاول أن تلحق بقطار السلام الذي انطلق من القاهرة بعدما أصبحت مصر نقطة الاتزان الوحيدة في معادلة الشرق الأوسط. لم يكن الأمر مصادفة فالدبلوماسية المصرية لم تبدأ اليوم بل تمتد جذورها إلى مدرسة من الحكمة السياسية تحفظ للمنطقة توازنها كلما أوشكت على الانفجار.
واشنطن التي أدمنت منذ عقود خطاب الوسيط الحاسم اكتشفت أن العالم تغيّر وأن السلام الحقيقي لا يُفرض من فوق الطاولات بل يُبنى من داخل الأرض التي تعرف معنى الحرب وثمنها. ومصر تعرفه جيدا لأنها لم تصنع السلام ضعفا بل صنعته من موقع القوة بعد أن سطرت بدمائها على ضفة القناة أن الأمن لا يُشترى، وأن السيادة لا تُستعار.
فى كل مرة تشتعل فيها بؤرة صراع في الشرق الأوسط تتجه الأنظار إلى القاهرة. ليس لأنها الأقرب جغرافيا بل لأنها الأكثر فهما لطبيعة هذه المنطقة ولعقل شعوبها. من غزة إلى الخرطوم ومن طرابلس إلى أديس أبابا ظلت مصر تتعامل مع ملفات معقدة بلغة العقل لا الغريزة وبمنطق الدولة لا الميليشيا. وبينما كانت العواصم تتبادل الاتهامات والضغوط كانت القاهرة تمسك بخيوط اللعبة دون أن تفقد بوصلتها: أن أمن المنطقة يبدأ من إنسانها، لا من حسابات صفقاتها
اليوم، واشنطن تراقب عن قرب نتائج اتفاق شرم الشيخ الأخير الذي أنهى جولة طويلة من الدم والدموع في غزة بجهود مصرية خالصة دعمها شركاء إقليميون بوعي وإرادة. ذلك الاتفاق لم يكن مجرد وقف لإطلاق النار بل لحظة استعادة مصرية لمفهوم الوساطة الأخلاقية حيث لا تُباع المواقف ولا تُشترى المآسي بل تُعاد صياغة المنطقة وفق منطق البقاء للجميع لا الغلبة لأحد.
اللافت أن واشنطن — رغم قوتها ونفوذها — أدركت أن القاهرة تمثل الآن مركز التوازن الجديد وأن تجاهل هذا الدور لم يعد ممكنا. لذلك نراها تسعى بهدوء إلى إعادة التموضع ليس كقائد كما اعتادت بل كشريك يحتاج إلى فهم ما تفعله مصر وإلى التعلم من أسلوبها فى إدارة الملفات الحساسة.
منذ سنوات كانت واشنطن تضع شروطها على الآخرين اليوم هى من يبحث عن مقعد فى القطار الذى تقوده القاهرة. قطار لا يتجه إلى سلام مؤقت، بل إلى ترتيب إقليمى جديد تتصدره مصر من موقع الحكمة والمسؤولية.
فى زمن الضجيج الإعلامي والمزايدات السياسية تفضل القاهرة أن تردّ بالأفعال: صفقة إنسانية اتفاق تهدئة مبادرة لإعمار أو قمة تجمع الخصوم قبل الأصدقاء. كل ذلك بصمت يليق بدولة تعرف أن الصوت الأعلى ليس دليل قوة بل علامة ضعف.
الرسالة المصرية الآن باتت واضحة: السلام ليس إعلانا يُقرأ بل واقعا يُبنى. ومن يريد أن يكون جزءا منه عليه أن يدرك أن القاهرة لا تعمل لحساب أحد بل لحساب استقرار الإقليم كله.
إنها سياسة الاحترام لا الاستتباع و”التعاون لا التبعية وهى القيم التى جعلت العالم — حتى القوى العظمى فيه — يعيد النظر فى معادلات النفوذ التقليدية.
ربما لم تعتد واشنطن أن ترى الشرق الأوسط من غير عدستها لكنها مضطرة اليوم لأن تراه بعين القاهرة. فمصر لا تصنع السلام لمجرد الهدوء بل لتؤسس لشرق أكثر عدلا وأقل صخبا وأكثر وعيا بأن الشعوب لا تُدار بالعقوبات بل بالأمل.
إن قطار السلام المصرى لا ينتظر أحدا لكنه لا يغلق أبوابه فى وجه من يريد الصعود إليه. فقط عليه أن يدرك أن الطريق لا يبدأ من واشنطن بل من القاهرة... حيث تُكتب السياسة بماء النيل لا بحبر البيانات.