مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

المبدعون

الشاعر والناقد / عبد الستار سليم يكتب: هندسة الشكل لا تصنع شعرا ..! "2"

2024-12-08 03:11:33 -  تحديث:  2024-12-08 03:14:21 - 
الشاعر والناقد / عبد الستار سليم يكتب: هندسة الشكل لا تصنع شعرا ..! "2"
الشاعر والباحث عبد الستار سليم
منبر

(الحلقة الثانية )

. . فلقد تعلّمنا من الشعراء العظام ، أن سرّ العظمة  فى أشعارهم ، لا يكمن فى تملّكهم  لأدوات الشعر ، بل فى تملّكهم  لرؤية عظيمة ، وأن تلك الرؤية لم تأت من فراغ ، بل جاءت من الثقافة الجادة (والثقافة ليست قراءة وكتابة فقط ، بل هى كل المنظومة الحياتية ) ، ومن التأمل فيما حولهم ، فالشاعر يتأمّل على مهل ، ويصوغ بهدوء ، ثم يخط الكلمات ببراعة 
و أُكمل فأقول ، و الشاعرية ليست هى ترويض اللغة  والقافية والتركيب ، وإعادة صياغة المعانى  والصور القديمة . . و الشعر هو  الشعور المكثف  ، و الصورة المعمقة  و الصحيحة التركيب . . وهو ما استطاع فيه الشاعر  التوفيق بين جناحى  الفكرة و  الصورة . .  كذلك تكون القصيدة المحكمة - فنّيا و لغويا -  هى  التى توفّر لها  اكتمال العلاقة بين الشكل والمضمون ، حين تتلاءم الألفاظ مع المعنى ، وتتميز فيها العبارة بقوة البناء ، ووضوح الفكرة ، وجمال الخيال ، فى أسلوب رائق ،  و غرض نبيل . . 
 فنحن لا نقرأ القصيدة  لنشبع حاجة من حاجاتنا العملية ، أو لنفهم مسألة علمية ، وإنما  نقرأ الشعر  لنعيش تجربة عقلية  انفعالية ، تختلف عن كل ذلك تماما . . أى تجربة نعرف بها تلك النشوة العارمة والعميقة داخلنا، فنتطوّح بها ، كما يتطوّح المتصوفة  فى " الحضرة" ، وقد تجلّى لهم العالم وانكشفت أسراره ( كما  قال البعض )
 وآفة الشعر  تتمثل فى الثرثرة والتطويل ، وعدم القدرة على التكثيف،  فالمباشرة تجهض التجربة ، وتُبعد الشاعر والشعر عن جوّ تحليق الصوَر الموحية
 مع مراعاة أن الشاعر لا يستطيع ممارسة فن القول ، ما لم تتـوفر له حصيلة لفظية ، أي سعة فى المعجم اللفظى ، تساعده على انتقاء  المفردة المناسبة لبِنـْية الجملة ومعناها فى يُسر وسهولة
  فليس جمال الشعر  فى ألفاظه ، فالشعر  شئ غير الألفاظ والمعانى الذهنية  . . الشعر هو الصور  الخيالية ، وما تنطوى عليه من دواعى الشعور ، فالتصويرية  هى التى  يحتل الشعر  بها منزلته بين الفنون . . ( و جودة معانى الشعر، لا  تتعارض مع  جودة  مبانيه . .) 
و أقول إن كثرة التوصيف من الخارج ، يوقع الشاعر  فى حيّز التداعى ، و بسبب فقدان الرؤية ،  يتسبّب فى أن يصبح الشعر كالأطلال المتهالكة ، تكاد تتساند ، ويتّكئ بعضها على بعض من الإعياء . .  فقد يكون الشعراء متمكنين من أدواتهم ، ولكن غير متمكنين من رؤاهم . . والشعراء يختلفون من شاعر إلى آخر، فى درجات الموهبة ، و  الثقافة ، و التجربة ( إذ لا بدّ لكل شخص من تجربته هو الشخصية ، فالتجربة لا تُعطَى ولا تُستعار، أما الخبرة الفنية  فهى التى يمكن أن يستفيدها اللاحق من السابق ) ، فالفرق -إذن - بين شاعر، و شاعر ، يكمن فى الرؤية الشعرية ، والأسلوب .
و كذلك  فإنّ  التكلّف ، وبدعة التصنّع ، والحذلقة ، كل ذلك يتسبب فى فساد الصورة الشعرية ، ويقف حائلا دون وصولها إلى فكر الناس، خصوصا عندما يستخدم الشاعر صُورة أو - حتى - مفردة  من بيئات غريبة ، تكون غير محسوسة بالنسبة للشاعر ، فستظل غير محسوسة بالنسبة  للمتلقى، مثل من يقول " تحوم النوارس فى جو الصحراء" - ومعروف أن النوارس ليست طيور صحراوية ، بل هى طيور بحرية - ومثل (  حبيبتى الشقرا ، تنساب ملء جوارحى طهرا ) فمن أين جاء  هذا القوال  بهذه الملهمة الشقراء ؟ إذ  ليست الشقراوات  من " جميلات"  القصيدة العربية ، من أجل ذلك تأتى الصورة باهتة  . .
فاللغة - هنا - التى بلا أبعاد ، هى أشبه  بكائن فقد ظلّه ، أو تضاءلت حواسُّه ، فهى  غير بليغة ، حتى ولو كانت فصيحة ، 
و إذا عـرّجنا على شعر العامّية -  هوْنًا ما- فإنه  نظرا لأن شعر العامية نابع من فكرة الاهتمام  بروح الشعب ، لذا وجب عليه أن يكون مرآة لضمير الجماعة ، ترى فيه وجهها، وتاريخها، وأحلامها ، فيكون شعر العامية  - فى نضوجه الفنى - معبّرا عن المزاج الشعبى ، وعن التكوين النفسى لدى البسطاء ، فـ "العامية " هي بضاعتهم رُدّت إليهم ( فى لغة لا تبعد كثيرا عن اللغة اليومية لتلك الجماعة) ، حين تكون بعيدة عن التحذلق ، و"الحفلطة " ، و عن استخدام الألفاظ المثيرة  - فقط لأنها مثيرة - فإن العبثية اللفظية تتسبب فى تشظّى الصورة الشعرية أيضا ، مما يجعل سِمات الفقر واضحة فى النتاج الشعرى . . كما أن إقحام كلمة بالفصحى  فى قصيدة العامية ، يصبح سببا فى حدوث اللبس ، وارتباك  الوزن بالنطق ، و تلعثم المتلقى ، وبالأخص عند غير المتخصصين من القُرّاء و محبّى الشعر ، وقديما قيل ، (إن من يتجاهل "خصوصية " الثقافة لإقليم معيّن ، يكون كمن أسقط من حسابه روح الإنسان ، ونفسه ، وتاريخه ، ولم يُبقِ إلا بَدَنًا، كالذى يوضع على منضدة التشريح )

الشاعر والباحث عبد الستار سليم يكتب: هندسة الشكل لا تصنع شعرا ..!

مساحة إعلانية