مساحة إعلانية
(الحلقة الثانية )
. . فلقد تعلّمنا من الشعراء العظام ، أن سرّ العظمة فى أشعارهم ، لا يكمن فى تملّكهم لأدوات الشعر ، بل فى تملّكهم لرؤية عظيمة ، وأن تلك الرؤية لم تأت من فراغ ، بل جاءت من الثقافة الجادة (والثقافة ليست قراءة وكتابة فقط ، بل هى كل المنظومة الحياتية ) ، ومن التأمل فيما حولهم ، فالشاعر يتأمّل على مهل ، ويصوغ بهدوء ، ثم يخط الكلمات ببراعة
و أُكمل فأقول ، و الشاعرية ليست هى ترويض اللغة والقافية والتركيب ، وإعادة صياغة المعانى والصور القديمة . . و الشعر هو الشعور المكثف ، و الصورة المعمقة و الصحيحة التركيب . . وهو ما استطاع فيه الشاعر التوفيق بين جناحى الفكرة و الصورة . . كذلك تكون القصيدة المحكمة - فنّيا و لغويا - هى التى توفّر لها اكتمال العلاقة بين الشكل والمضمون ، حين تتلاءم الألفاظ مع المعنى ، وتتميز فيها العبارة بقوة البناء ، ووضوح الفكرة ، وجمال الخيال ، فى أسلوب رائق ، و غرض نبيل . .
فنحن لا نقرأ القصيدة لنشبع حاجة من حاجاتنا العملية ، أو لنفهم مسألة علمية ، وإنما نقرأ الشعر لنعيش تجربة عقلية انفعالية ، تختلف عن كل ذلك تماما . . أى تجربة نعرف بها تلك النشوة العارمة والعميقة داخلنا، فنتطوّح بها ، كما يتطوّح المتصوفة فى " الحضرة" ، وقد تجلّى لهم العالم وانكشفت أسراره ( كما قال البعض )
وآفة الشعر تتمثل فى الثرثرة والتطويل ، وعدم القدرة على التكثيف، فالمباشرة تجهض التجربة ، وتُبعد الشاعر والشعر عن جوّ تحليق الصوَر الموحية
مع مراعاة أن الشاعر لا يستطيع ممارسة فن القول ، ما لم تتـوفر له حصيلة لفظية ، أي سعة فى المعجم اللفظى ، تساعده على انتقاء المفردة المناسبة لبِنـْية الجملة ومعناها فى يُسر وسهولة
فليس جمال الشعر فى ألفاظه ، فالشعر شئ غير الألفاظ والمعانى الذهنية . . الشعر هو الصور الخيالية ، وما تنطوى عليه من دواعى الشعور ، فالتصويرية هى التى يحتل الشعر بها منزلته بين الفنون . . ( و جودة معانى الشعر، لا تتعارض مع جودة مبانيه . .)
و أقول إن كثرة التوصيف من الخارج ، يوقع الشاعر فى حيّز التداعى ، و بسبب فقدان الرؤية ، يتسبّب فى أن يصبح الشعر كالأطلال المتهالكة ، تكاد تتساند ، ويتّكئ بعضها على بعض من الإعياء . . فقد يكون الشعراء متمكنين من أدواتهم ، ولكن غير متمكنين من رؤاهم . . والشعراء يختلفون من شاعر إلى آخر، فى درجات الموهبة ، و الثقافة ، و التجربة ( إذ لا بدّ لكل شخص من تجربته هو الشخصية ، فالتجربة لا تُعطَى ولا تُستعار، أما الخبرة الفنية فهى التى يمكن أن يستفيدها اللاحق من السابق ) ، فالفرق -إذن - بين شاعر، و شاعر ، يكمن فى الرؤية الشعرية ، والأسلوب .
و كذلك فإنّ التكلّف ، وبدعة التصنّع ، والحذلقة ، كل ذلك يتسبب فى فساد الصورة الشعرية ، ويقف حائلا دون وصولها إلى فكر الناس، خصوصا عندما يستخدم الشاعر صُورة أو - حتى - مفردة من بيئات غريبة ، تكون غير محسوسة بالنسبة للشاعر ، فستظل غير محسوسة بالنسبة للمتلقى، مثل من يقول " تحوم النوارس فى جو الصحراء" - ومعروف أن النوارس ليست طيور صحراوية ، بل هى طيور بحرية - ومثل ( حبيبتى الشقرا ، تنساب ملء جوارحى طهرا ) فمن أين جاء هذا القوال بهذه الملهمة الشقراء ؟ إذ ليست الشقراوات من " جميلات" القصيدة العربية ، من أجل ذلك تأتى الصورة باهتة . .
فاللغة - هنا - التى بلا أبعاد ، هى أشبه بكائن فقد ظلّه ، أو تضاءلت حواسُّه ، فهى غير بليغة ، حتى ولو كانت فصيحة ،
و إذا عـرّجنا على شعر العامّية - هوْنًا ما- فإنه نظرا لأن شعر العامية نابع من فكرة الاهتمام بروح الشعب ، لذا وجب عليه أن يكون مرآة لضمير الجماعة ، ترى فيه وجهها، وتاريخها، وأحلامها ، فيكون شعر العامية - فى نضوجه الفنى - معبّرا عن المزاج الشعبى ، وعن التكوين النفسى لدى البسطاء ، فـ "العامية " هي بضاعتهم رُدّت إليهم ( فى لغة لا تبعد كثيرا عن اللغة اليومية لتلك الجماعة) ، حين تكون بعيدة عن التحذلق ، و"الحفلطة " ، و عن استخدام الألفاظ المثيرة - فقط لأنها مثيرة - فإن العبثية اللفظية تتسبب فى تشظّى الصورة الشعرية أيضا ، مما يجعل سِمات الفقر واضحة فى النتاج الشعرى . . كما أن إقحام كلمة بالفصحى فى قصيدة العامية ، يصبح سببا فى حدوث اللبس ، وارتباك الوزن بالنطق ، و تلعثم المتلقى ، وبالأخص عند غير المتخصصين من القُرّاء و محبّى الشعر ، وقديما قيل ، (إن من يتجاهل "خصوصية " الثقافة لإقليم معيّن ، يكون كمن أسقط من حسابه روح الإنسان ، ونفسه ، وتاريخه ، ولم يُبقِ إلا بَدَنًا، كالذى يوضع على منضدة التشريح )
الشاعر والباحث عبد الستار سليم يكتب: هندسة الشكل لا تصنع شعرا ..!