مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

الشاعر والباحث درويش الأسيوطي يكتب: ( من تلك الأيام ) أحمد حنفي حسانين

2024-07-28 03:38:49 - 
الشاعر والباحث درويش الأسيوطي يكتب: ( من تلك الأيام ) أحمد حنفي حسانين
الشاعر والباحث درويش الأسيوطي

من أدب السيرة الذاتية 
     لم يكن أحمد حنفي حسانين  نجما من نجوم السينما والتلفزيون كأحمد رمزي أو واحدا من لاعبي كرة القدم مثل عبده نصحي، كما لم يكن من المجرمين ذائعي الصيت كالخط أو أبو ضيف سالم، ولم يكن أيضا من الحكام أو الصحفيين البارزين ..  بل كان أحد من زاملتهم في مرحلة التعليم الثانوي، وبالتحديد في الصف الثاني بمدرسة قصر العيني التجارية بنين .. كنت إذا نظرت إلى وجهه شعرت أنك أمام أحد أبناء العائلات التركية، بلون البشرة البيضاء المشوبة بالحمرة والعيون الملونة. أما إذا ابتعدت قليلا، فسوف تراه صبيا مثلي يستتر بنظافة ملابسه من دلائل الفقر التي يكنه تحت ملابسه التي لا تتبدل كثيرا.
 لم أكن أنا درويش مولعا بتمتين علاقات الصداقة مع الكثيرين من زملاء الدراسة .. حتى أنني لا أكاد أذكر من زملاء المرحلة الإعدادية اسم صديق واحد، ولم تتعد صداقاتي التي خرجت بها من زملاء الدراسة بالمرحلة الثانوية؛ أكثر من اسمين أحدهما أحمد حنفي حسانين. ربما لفتني بداية إلي أحمد اشتراكنا في اسم الاب ( حنفي) .. لكن ما جعلني أقترب منه متوجسا كعادتي، هو ما بدا عليه من بساطة في سلوكه، ولزومه الفصل مثلي أثناء الفسحة الطويلة . أما ما جذبني إليه فهو تلك البحة الرائقة التي تلازم صوته حين يرتفع بالغناء .. كان الولد يعرف قدر صوته الجميل .. فإذا رفع صوته متغنيا بأحد الموشحات أو (البشارف) أو حتى المواويل، شد بعضنا إليه.. وكنت أول من يهرع إلى جلسته المفضلة في الصف الأخير من الفصل .. هناك نجلس خاشعين كأننا في محراب مقدس .. نستمع إلى صوته الآسر وهو يردد (يا شادي الألحان.. أسمعنا .. رنات العيدان .. يالللي ..). ولم أكن وقتها قد سمعت من قبل مثل هذا اللون البديع من غناء القصور .. والبيوت المغلقة، فكل مخزوني المطرب من الغناء الشعبي، الذي أستطيع أن أغنيه متى شئت . 
 اجتذب صوت أحمد حنفي حسانين أو ( سمير ) كما كانت أمه تناديه لتدلله، زميلا آخر لم يكن صوته جميلا، لكنه كان مولعا بالإيقاع . فبعد يومين أو ثلاثة، تحول ذاك الشاب الصعيدي الملامح، إلى ضابط الإيقاع المصاحب لأحمد، وتحولت أنا إلى فرد من (بطانة) المطرب أحمد حنفي حسانين. 
         وثقت تلك الجلسات شبه الدورية علاقتي بأحمد حنفي حسانين وصلاح محمود سيد مغيث. حتى أننا كنا نجلس معا دون حاجة إلى مبرر غناء أحمد. وقد اكتشفت فيما بعد مجموعة من الأسباب المبهمة التي جمعتنا من أهمها بالطبع المستوى الاجتماعي، فأنا الصبي الفقير اليتيم، الذي يسكن شارع الترعة البولاقية ، وصلاح مغيث ابن الموظف البسيط الذي يسكن في دوران شبرا، وأحمد اليتيم الفقير الذي يسكن (درب اللبانة) المشرف على جامع السلطان حسن  بجوار القلعة. كنا نتشارك في محبتنا للغناء  والفقر والإحساس بالبؤس  ربما كان صلاح مغيث أقلنا إحساسا بالبؤس .. فهو يعيش بين والديه .. أما أنا وأحمد فكنا نفتقد الأب، وكان كلانا تحت اليد الباطشة لخاله الذي  يعوله ويتولى أمره. 
 كان خاله (صلاح ) كخالي (علي)، منهمك في السعي على الرزق، ولا ينتبه إلى ما نفعل؛ إلا حين نخرج عن خط النظام الأمثل من وجهة نظره. لا يهتم  بما نلبس، أو نأكل، أو كيف ينظر إلينا زملاء الفصل .. لكن تقوم القيامة إن استدعته الإدارة المدرسية لمخالفة ارتكبناها ولو عادية كالحديث أثناء الدرس، أو التأخر عن دخول الفصل، أو المشاجرة مع أحد المنافسين من الزملاء. لم أر خاله (صلاح) إلا مرة أو مرتين .. لم يكن ودودا ..  أما هو فلم ير خالي (علي) لحرصي على ألا يحدث ذلك، كنا نلتقي في غير أوقات الدراسة إما في الشارع – لا المقاهي المكلفة ــــ  أوعلى كورنيش النيل . 
        زرته في بيته الأثري المتهالك مرات، وقابلتني أمه شبه المقعدة (أم سمير) ، وعرفني على أختيه سميرة ومحظية. وربما نظرت إلى سميرة وأنا أفكر في الزواج بعد التخرج طبعا، ولكن هذا الخاطر سرعان ما يتبخر حين أعود إلى رشدي، وأذكر ما ينتظرني في البلد( الشيخ جابر) من مهام مقدسة. 
 كنا نؤدي امتحان الدبلوم- ربما في اليوم الثاني أو الثالث من أيام الامتحانات _ حين تفقدت أنا وصلاح مغيث أحمد ولم نعثر عليه.. التقينا بزملاء لجنته فأكدوا لنا أنه لم يحضر اليوم .. بهتنا .. فالغياب عن الامتحان وامتحان الدبلوم لا يكون إلا لكارثة .. أدينا الامتحان في المادة الثانية بنصف عقل . كانت تدور في ذهني سيناريوهات كثيرة .. لعل أمه المريضة،  أو لعل البيت الأثري الذي يسكنه، أو لعله تعثر على سلم درب اللبانة الحجري المهيب.. وكثير من الصور تلح على خاطري وأبعدها .. لم نكن في حاجة إلى تداول سؤال ماذا نفعل  كنا قد اتفقنا دون أن ندري على الانطلاق إلى بيت أحمد في القلعة .. كان المكان هادئا .. ولم يكن هناك ما يدل على وقوع الكارثة والحمد لله  .. وما أن سمع صوتنا حتى خرج إلينا دامع العينين محمر الأنف.. فيه إيه يا أحمد ..؟ قال ضاحكا  لم يكن مع خالي صلاح أجرة المواصلات .. ولم تتمكن (أم سمير) من تجميع المبلغ  من الجيران إلا بعد أن انتظم الطلاب في الامتحان، لم نضحك .. جلسنا على الحاجز الحجري .. حتى لبس شيئا في قدميه وانطلقنا ... 
 لم تكن أيامنا وليلاتنا دائما قاتمة كتلك الليلة، فكثيرا ماكنا نسهر على شاطئ النيل نستمع إلى أحمد مغنيا ، أو إلي صلاح مقلدا أحد الممثلين .. وكنا نستمع كثيرا إلى أحمد وهو يسرد علينا بفخر كيف استدعاه بابا شارو ليشارك في تسجيل الصورة الإذاعية المبهرة (عيد ميلاد أبو الفصاد) ، ويستعيد الأغنيات الشهيرة بأصواتها الفريدة ..
 كنا نتشارك الطموحات، كان أحمد يحدثني حتى بعد أن تخرجنا عن مشروعات غنائية مع ملحنين لا يعرفهم غيره .. لا تتم عادة، ولم أكن في الواقع معنيا بالتدقيق هل هي مشروعات بالفعل أم هي مجرد أماني تتردد في صدر ذلك الشاب الموهوب المنهك في عمله في شركة الكهرباء .. 
         وحين عرضت لي أول مسرحية كتبت أشعارها على مسرح السامر بالقاهرة، كان أول من فكرت في دعوته لحضور العرض والجلسة التي تعقب العرض .. كنت فخورا أن يحضر صديقي أحمد حنفي الجلسة وأن ينبري مدافعا عني .. 
 كنت كلما تيسر لي زيارة القاهرة، أو الوجود فيها حريصا أن ألتقي بأحمد وصلاح معا، بل أنني أحيانا كنت أكلف أخي المجند ( محمد الألفي ) بالمرور عليهما للاطمئنان، أو توصيل آخر ما طبع لي من الأعمال الشعرية. 
 كان آخر لقاء لي بصلاح مغيث في معرض الكتاب . كنت أسير منفردا كالعادة .. وفجأة وجدت من يعترض طريقي صائحا ( درويش يا صعيدي )، كان صلاح مغيث  وسط ذهول بناته وقد تحول إلى صبي نزق .. إلقى بما يحمل من الكتب على الأرض .. ليخلي لي حضنه الذي بكيت فيه طويلا.  ثم تبادلنا أرقام الهواتف ومضينا . 
 أما أحمد حنفي فقد فاجئني بعد ذلك بسنوات  باتصال تليفوني .. وحينما سألت من معي ..  جاءني صوته المقتعل الصعيدية .. لم أصدق..!!  قلت له كيف حصلت على تليفوني .. قال أنه حصل عليه من صلاح طبعا.. وعاتبني كيف أكون في القاهرة وأحضر المعرض ولا أحرص على لقائه .. اعتذرت له بأني غادرت القاهرة بعد انتهاء الأمسبة الشعرية مباشرة، فليس لدي إجازات .. وقلت أنا (تعوض ..) قال: بارك لي ...مش اتجوزت قلت :لا تقلي أنها .. قال : هي .. زميلة العمل التي تعرفها .. كانت مفاجأة سارة .. ولكن ما جعلني أطير من الفرحة أنه وعدني أن يزورني في أسيوط ..  الأسبوع المقبل .. وفي سيارته ..  
 ومر الأسبوع .. وأسبوع بعده ..وثالث ..  وحين اتصلت بالرقم الذي اتصل منه أحمد ردت علي أمرأة  هادئة.. قلت لها أنا درويش الأسيوطي .. مش دا بيت الاستاذ أحمد حنفي حسانين .. ردت المرأة بصوتها الهادئ الحزين .. البقيه ف حياتك ... صرخت.. إزاي ؟ فالت بنفس الهدوء .. حادث سيارة .. حبست بقية الأسئلة داخلي .. فقد خشبت أن تقول لي أنه مات وهو في الطريق إلى أسيوط لزيارتي ...

مساحة إعلانية