مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

الشاعر الدكتور مصطفي رجب يكتب : رحلة إلى القاهرة "1"

2024-05-16 11:24:33 - 
الشاعر الدكتور مصطفي رجب يكتب : رحلة إلى القاهرة "1"
الشاعر الدكتور مصطفي رجب
منبر

اقتضت ظروف طارئة أن أسافر للقاهرة الأسبوع الماضي بالقطار ، ركبت من بلدي ( طحطا ) قطارا فخما يتوقف في محطات المراكز حتى يصل إلى أسيوط ، وبعدها لا يتوقف إلا في عواصم المحافظات : المنيا ، وبني سويف ثم الجيزة .
وجدت المقعد المفرد المجاور للمقعد المحجوز لي فارغا  فجلست فيه ، بدأت أستكشف ماحولي فوجدت أن مقعدي الذي تركته يقع خلف رجل طوال يفوقني في الطول بمرحلة ويفوقني في الحجم بمراحل ، فقد أوتي بسطة في الكرش لا بأس بها . وعن يساره إلى جانب الشباك سيدة فضلى يبدو أنها حرمه المصون ، كانت السيدة الفضلى " تقزقز " شيئا لم أتبين : ألبٌّ هو أم حمصٌ أم فولٌ ؟ 
كان المقعد المفرد الذي أويت إليه – إلى أن يأتي صاحبه - " منجعصا " إلى الخلف ، وأنا من المسالمين الذين لا يحسنون رفع الكراسي أو خفضها أو تنوينها بل يتكومون عليها -كما هي - إيثارا للسلامة .
وحين أويت لذلك المقعد وجدت رأسي المتكئ على الكرسي كأنه في حضن السيدة التي في المقعد المفرد الذي خلفي ، لم أنظر لوجهها حين جلست ، ولكنني حين تحرك القطار من طحطا ، وأرخيت أذني لها كانت تتحدث في هاتفها بصوت عال مسموع ، وتحكي عن مواقف لها وبطولات شتى في " المتابعة" التي تباشرها على المدارس الخاصة في محافظتنا . كان صوتها هادئا حنونا ، تتخلله ضحكات رسمية موجزة من حين لآخر ، وكان صوتها ينبئ بأنها جميلة ساحرة هادئة كصوتها هذا الذي يتدفق متصلا وكأنها لا تفكر ولا تتدبر ولا تتخير ألفاظا دون ألفاظ كما أن لهجتها " البحراوية " لا تخلو من بعض السرعة ..
تابعت معها  - على مدى ثلاث أو أربع محطات - معظم إنجازاتها الحاسمة ، ومواقفها الصارمة ، وسط ضحكاتها اللازمة المتواصلة . ولكن عينيَّ كانتا تتابعان تلك السيدة الفضلى التي عن يسار الرجل وهي مازالت " تقزقز " !! ثم رفعت زجاجة ضخمة جدا من " الفانتا " الصفراء فشربت منها ما شاءت أن تشرب .
في محطة أسيوط يقف القطار وقتا طويلا فيتجاسر باعةٌ شبابٌ على الأرصفة فيدخلون للقطار يبيعون ما معهم من طعام أو حلوى أو مسليات من فول ولب وترمس وما شابه الترمس . ويبيع بعضهم أكياسا بها شرائح بطاطس جافة ، أو أكياسا بها طعام مجفف .. 
همستْ السيدة الفضلى لبعلها الطويل الكثيف ذي الجلباب الأفرنجي الواسع والنظارة الطبية السميكة ، فهرول إلى الرصيف وعاد يحمل أكياسا تضم أكداسا فيها كثير من تلكم المأكولات .
أفرغ "سبع البرمبة " ما اشتراه من تلك الأكداس والأكياس بين يدي حرمه المصون فكانت تفتحها كيسا بعد كيس ، فتلتهم ما فيها ، وتعطي بعلها- بين وقت وآخر-  كيسا فيلتهمه ، وتعطي ابنهما الجالس على المقعد المجاور لي خلفهما كيسا فيلتهمه .. 
عند محطة ملوى بالمنيا يكون قد مر ساعتان ونصف الساعة منذ جلست في القطار ، لم يتوقف فيها شدقا تلكم السيدة الفضلى عن الدوران وإن توقف شدقا بعلها ، من حين لآخر ، وكأنه يستريح ..
كان الاثنان الجالسان على المقعدين اللذين خلف مقعدي المجاور لي مستغرقين في الحديث بصوت لا رحمة فيه بباقي ركاب العربة ، كان صغيرهما – وهو في نحو الأربعين – يسأل ، وكبيرهما الذي لم أستطع تقدير سنه يجيب فيسرف في تفاصيل ما رآه[ من بعيد]  في حروب 1948 و1956 و1967 و1973
وكانت السيدة التي خلفي قد وصلت بشكاواها إلى قداسة البابا ..
.......... 
عندما وصلنا إلى المنيا ، بدا لي أن أتحرك قليلا من مقعدي الذي قضيت فيه قرابة الساعات الأربع بلا أي حركة ، فنزلت إلى الرصيف وتمشيت قليلا ، إلى أن أذَّن مؤذِّن القطار بزمَّارته فعدتُ للصعود ، وفوجئت بأن "سبع البرمبة " قد سبقني للنزول واشترى من محطة المنيا أكياسا جديدة ، ألقاها بين يدي زوجه التي كانت مازالت تقرقش أشياء لا أعرف كنهها ، ألقيت نظرة على الجالسة خلفي التي سحرني صوتها ، وجذبتني ضحكاتها التي ظللت أسمعها أربع ساعات ، فإذا بها كتلة ضخمة من اللحم الأبيض المتوسط ، وفي وجهها ملامح شبيهة جدا بملامح اللورد تشرشل ، مما أصابني بغير قليل من الاطرغشاش والابرغشاش .
وحاولت في بقية الرحلة أن أتفادى سماع حكاياتها عن تفتيشها "التربوي" على تلك المدارس المنوط بها تفتيشها . وقلت في نفسي : لعله من الأجدى أن أصغي لحكايات ذلك الذي يحكي عن الحروب من 1948 الجالس على المقعد الذي خلف مقعدي الأصلي.. كان جليسه منبهرا بحكاياته ، فقد كان يمزج ببراعة بين ما جرى في كل حرب من تلك الحروب التي عايشها ( في الإذاعة ! ) وماكان يفعله في ذلك اليوم مع آل بيته من معارك حول الكرنبة التي طبخوها فلم تعجبه ، وذلك اللون الذي دهنوا به البيت في أثناء غيابه للعمل بالقاهرة .. 
نظرت فجأة إلى السيدة الفضلى التي لم يهدأ فكَّاها عن الدوران من طحطا إلى المنيا ، فوجدتها قد قسمت ما اشتراه بعلها من محطة المنيا عليها وعلى بعلها وأخذت تحرضه على الأكل ، والرجل يأكل قليلا ، ويتأفف قليلا ، فلا يجد مهربا إلا أن يقوم ويتمشى في عربات القطار لمدة ربع ساعة أو ثلث ساعة ثم يعود فيجدها مركزة كل التركيز فيما بين يديها من أكياس ، وتفتح ، من وقت لآخر ، جردلا بلاستيكيا مربعا به زجاجات المياه الغازية الكبرى ، فتأخذ جرعات من تلك الميرندا الصفراء  ثم تعود إلى ما هي فيه من مضغ وبلع .
السيدة التي خلفي ذات الملامح التشرشلية مازالت تقص بعض بطولاتها التفتيشية مصحوبة بإنذاراتها للمقصرين ممن تتابعهم ، وتهديدها لمديري المدارس بالويل والثبور وعظائم الأمور .
والجالس على المقعد الذي خلف مقعدي الأصلي أنهى حكاياته مع حرب 48 وبدأ يقص ما رآه وما سمعه وما قام به من بطولات – في المطاعم -خلال حرب 1956 
وفجأة خطر ببالي أن أتفقد السيدة الفضلى التي لم يهدأ فكَّاها عن الدوران فوجدتها قد طلبت من زوجها إنزال شنطتها الكبيرة من على الرف ، فأنزلها المسكين ، وكانت تأوهاته ومجاهداته تدل على ثقل الشنطة ، ثم وضعها على حِجْر زوجته ففتحتها وأخرجت منها كيسا ضخما احتفظتْ به ، وطلبت منه إعادتها فوق الرف فأعادها المسكين .
ولما فتحت كيسها ظهر أن به سندوتشات سبق تحضيرها ، لكنها كانت تفتح كل رغيف ، وتضع به شيئا طويلا  في حجم "السحلية" الحامل التي توشك على الوضْع ! ، كان هذا الشيء الطويل فيما يبدو محمرا مشويا أو مطبوخا ، لكني لم أتبين ما عسى أن يكون ... جهزتْ تلك السيدة من هذه السندوتشات ما قد يزيد عن العشرين ، وجعلت تأكل منها بشراسة شرسة ، وعنفوانية عنيفة ، ومن حين لآخر تهب بعلها واحدا أو اثنين وتزغر له فينكبُّ آكلاً صاغرا .. وحاولت أن تعطي ابنها فصرخ ورفض بشدة فاكتفت بأن أعطته واحدا فقط ..
واقتربنا من محطة بني سويف ... وهي مازالت تأكل 
 .. في محطة بني سويف ، كنت قد بلغتُ آخر ما يمكن أن يبلغه مسافر من الصبر على ما حوله من ضجيج وأكل متواصل ، وحكايات لا رأس لها ولا ذَنَب ، فنزلت إلى الرصيف فاشتريت ثلاث بسكوتات صغيرات وكان معي من محطة سوهاج زجاجات ماء وعصائر ، تحرك القطار والبائع يعطيني الباقي ، فهرولت مسرعا وقفزت في باب العربية ففوجئت بما لم أتوقع قط : كان ذلك الرجل الطيب بعل السيدة الأكول قد سبقني واشترى أكداسا جديدة من مطاعم شتى ومقرقشات شتى !
أويت إلى مقعدي وكان أول ما فعلت أن نظرتُ إلى تلك السيدة الفضلى فوجدتها تقزقز لبًّا أو تقرقش فولاً .. ووضع البعل ما اشتراه بين يديها ، فوضعته أسفل منها وواصلت قزقزتها للّب أو قرشها للفول في حدود نصف ساعة ..وهي تهمس لبعلها بين الحين والحين فيقوم من مكانه ليطلب لها شايا من بائع الشاي .
لما وجدتها قد أوغلت في قرقشة الفول ، أعرضت عنها ، وأرخيت أذنيَّ لذلك العجوز المناضل الذي تابع تاريخ الحروب المصرية ( من الراديو! ) كان يضحك بقسوة وهو يحكي لضحيته المستسلم له بجواره عن آرائه الشخصية في المرأة من خلال رحلة عمره الطويلة ، فكان مما قال : إن النساء في مصر ثلاثة أصناف لا رابع لهن : أول صنف منهن أولئك النسوة الرغايات اللواتي يتحدثن كثيرا فيسرفن في الحديث حتى لا يجد أزواجهن مهربا إلا النزوع إلى المقاهي ولعب النرد مع الأصدقاء حتى مطلع الفجر .
 والصنف الثاني  أولئك النسوة الصامتات الحزينات اللواتي لا يتكلمن أبدا مهما يكن الزوج ودودا لطيفا مجاملا كريما ، فلا يجد أولئك الأزواج المهجورون مهربا إلا  النزوع إلى المقاهي ولعب النرد مع الأصدقاء حتى مطلع الفجر .
 والصنف الثالث  لم أتبينه من حديثه ، فقد جاء موكب الكمسارية والمفتشون فأوسعونا تفتيشا وحديثا ..  
وغادر الكمسارية والمفتشون بعد أداء عملهم ، وأرخيت أذني أتابع بقية أنواع الحريم ، ففوجئت بأن الرجل قد قام من مكانه ولعله راح يقضي حاجته ـ أو يشعل سيجارته ، أو يحادث زوجته . فاستسلمت راغما مرغما للسيدة التي خلفي وكانت تقول لمن تحادثه : " ....أنا قلت له مستحيييييل أوافق على كده ، ده تهريج ، روح اشتكي للي يعجبك : القسيس أو القمص أو حتى روح " للبابا نفسه " ثم ضحكتْ ضحكة بشعة فيها تشفٍّ عنيف ، تخالف كل ضحكاتها الرقيقات السابقات اللواتي جذبن قلبي إليها قبل أن أرى سحنتها ..
لم يكن أمامي مفر من العودة لمتابعة السيدة الفضلى التي كانت قد انتهت من قزقزتها للب أو قرشها للفول ، وفتحت الكيس الذي اشتراه بعلها من محطة بني سويف فاستخرجت منه مغلفات غريبة لا عهد لي بها ، كانت تستخرج من تلك المغلفات ما يشبه الفطير فتقضم منه بشراسة وشراهة من لم يذق طعما منذ ربع قرن ، مع أنها – ويشهد الله – لم تتوقف عن القضم والهضم والرضم [ لا أحد يسألني عن معنى " الرضم " هذه ! ] منذ رأيتها في محطة طحطا حتى الآن .. 
كنت أفكر بجدية أن أسأل السيدة التي خلفي عما فعل ذلك المذنب الذي نصحته بأن يشكوها – إن أراد- إلى قداسة البابا شخصيا .. وبالفعل نظرت إليها وهي غارقة في مكالمتها فرأيت في ملامحها ما كبحني وأخرسني ..

مساحة إعلانية