مساحة إعلانية
وكثيرًا ما يستشرف المبدعون المستقبل بقدرتهم الفذة على قراءة الواقع. فقد تحققت الكثير من الاكتشافات التي كانت جزءًا من نص أدبي، مثل تنبؤات جول فيرن عن السفر إلى القمر، وجورج أورويل عن استخدام كاميرات المراقبة في روايته “1984”، واستخدام الذكاء الاصطناعي في رواية “الحديقة الآلية” لري كرزويل. وفي روايتنا هذه، يقدم لنا هكسلي شكلاً للعالم نجد الكثير من انعكاساته في الواقع المعاصر. فمن خلال العولمة، انتشرت قيم تضاهي تلك التي صورها هكسلي في روايته، مثل نشر القيم الاستهلاكية للحفاظ على الاقتصاد والسيطرة على الأفراد. ولا سيما ما نراه الآن من استهلاك التكنولوجيا، التي تعتبر ركنًا أساسيًا في السيطرة على عقول البشر وبرمجتهم منذ الولادة للامتثال لمعايير المجتمع.
في الرواية، نرى فكرة الإلحاح اليومي لأفكار معينة وترديدها بشكل مستمر أثناء النوم لجعلها راسخة في وجدان الفرد منذ طفولته. وفي واقعنا المعاصر، تلعب وسائل الإعلام دورًا هامًا في الدعاية لقيم معينة وبثها بشكل متكرر في الأفلام السينمائية وعبر منصات التواصل الاجتماعي، لتبدو وكأنها حقائق غير قابلة للشك، وتوجه الفرد للتعايش معها والاقتناع بها للحصول على القبول الاجتماعي. يبدو “الترند” وجهًا آخر لقولبة الأشخاص وصياغة أفكارهم، حيث الإلحاح اليومي لصور وفيديوهات محددة وترويجها عبر خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي لتوجيه الرأي العام لاتخاذ موقف معين. هذا ما هو إلا تطبيق أكثر حرفية لتقنية الاستنساخ، ولكن عن طريق البرمجة العصبية المبنية على بث ما يراد ترسيخه على مدار فترات طويلة حتى يصبح من المسلمات.
الانعزال والانفصال الاجتماعي هو جانب آخر تعكسه الرواية من خلال تشجيع العلاقات السطحية وتجنب العلاقات العميقة لتعزيز الاستقرار الاجتماعي. هذا الوضع يشابه التحديات التي يواجهها الناس اليوم في بناء علاقات حقيقية في العصر الرقمي، حيث تهيمن العلاقات الافتراضية كبديل عن العلاقات الحقيقية، مما يخلق إحساسًا بالوحدة والانفصال العاطفي. يؤدي ذلك كله إلى انتشار المشاكل النفسية، والتي يتم علاجها عن طريق اللجوء للعقاقير كما يحدث في الرواية