مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

مصطفى رجب يكتب:الأستاذية معناها : سعيد اسماعيل علي !!

2024-10-18 02:01:31 - 
مصطفى رجب يكتب:الأستاذية معناها : سعيد اسماعيل علي !!
الشاعر الدكتور مصطفي رجب
منبر

أرجو ألا يبادر المتعجلون من القرّاء فينكروا عليًّ أن ْ جعلت اسم شيخي هذا عنوانا لمقال ، فالحق أنهم لو عرفوا دخيلة هذا الرجل كما عرفت ، ولو بَلَوا من أخلاقه ما بلوت ، ولو عايشوه كما عايشته ، لاقترحوا عليّ أن أجعل اسمه عنوانا لسِفْر عظيم ، وليس لمقال متواضع كهذا المقال . الذي دفعني إلى كتابته ما نشره " أستاذي " الدكتور سعيد ذات مرة واصفا نفسه بأنه من أصحاب الكهف .
فالحقيقة الأولى أن الرجل عانى كثيرا جدا في مسيرة حياته على نحو ما يجده القرّاء مفصَّلا في كتاب أستاذنا المعنون ب ( .. هاؤم اقرؤوا كتابيه !! ) وهو سيرة ذاتية كتبها لنفسه في نحو أربعمئة صفحة وصدرت عن دار ( عالم الفكر ) بشارع ثروت بالقاهرة .
والحقيقة الثانية أن مفهوم " الأستاذية " كان – إلى عهد قريب - أجل من أن يهجم عليه كل من هب ودب من السوقة ، وأعز من أن يمتهنه العامة فتلوكه ألسنتهم دون وازع من ضمير ، أو دون سند من وعي . فكان الذين يحملونه هم بحق من الجبال الرواسخ من أمثال أساتذتنا الكبار المفكرين : الدكاترة سعيد اسماعيل علي ، وعبد الوهاب المسيري ومحمد عمارة وشوقي ضيف وأحمد هيكل ومحمود الربيعي وسيد عثمان وغيرهم .
إن مفهوم الأستاذية – كما لمسناه في مسيرة أستاذنا وشيخنا الدكتور سعيد اسماعيل علي - يتضمن من القيم السامية أكرمها وأسماها فمثلاً : 
1) أمانة العلم : 
فعندما ينطق أحد لفظ " أستاذي " فهو يعني – عند من يقدرون هذا اللفظ حق قدره – أنه تلقى على يديه علماً انتفع به سواءٌ أكان ذلك العلم قليلاً أم كثيراً ، وأنه استفاد مما تعلم ، وأنه مكلف بالعمل بما تعلم من علم على يدي أستاذه ، وهيأ نفسه لنشر ما تعلم ، وهذا النشر له ضوابطه الخلقية ، فليس من أمانة العلم أن يباح لكل من ينشده ، ولكن العلم له أهل جديرون بأن يبلغهم ، وقديماً قال الشاعر في هذا المعنى : 
فمن منح الجهال علماً أضاعه ومن منع المستوجبين فقد ظلم
والمستوجبون هم أولئك الحراص على تحمل أمانة العلم ورعاية منزلة العالم ، وقد كان كبار العلماء دوماً يتمسكون بألا يبذلوا علمهم إلا بعد عناء ومن هنا فإن أمانة العلم بين التلميذ وأستاذه تقتضي إلى جانب تلقي العلم ؛ الحرص على عدم بذل العلم لغير أهله . 
2) أمانة الخلق :
وعندما يطلق أحد لفظ " أستاذي " على أحد أساتذته فهذا يعني أنه استفاد منه إلى جانب العلم ، خلقاً سامياً رفيعاً ، أحس بمقتضاه أن هذا المعلم يستحق شرف تلقيبه 
بـ " الأستاذ " ، لأنه اختار لنفسه مجموعة من القيم الخلقية الرفيعة زان بها علمه ، واستكمل بها عظمة شخصيته ، وصنع منها لنفسه كياناً مهيباً أضفى على علمه وقاراً ، وأضاف إلى شخصه سمواً حقيقياً ، فلا يجوز لأحد أن يطلق لفظ " أستاذ " على أي معلم أو عالم يخلو سلوكه من محاسن الأخلاق ، ورفيع السلوك ، ونبل المقاصد ، وحلاوة المعشر . 
3) الإيجابية الاجتماعية : 
والأستاذ الحقيقي لا يعيش بمعزل عن مجتمعه إذ لا قيمة لعلم غير نافع ، ولا قيمة لعالم يستكبر وينأى بنفسه عن الناس ، من الحق أن يترفع الأستاذ عن الدنايا ، ومن الحق أن يسمو بنفسه وبوقته عن غشيان مجالس الهزل والسفه ، ولكن ليس من الحق أن يتخذ عزلته شعاراً لحياته ، فالعزلة والتقوقع من شأن الحيوانات أو الحشرات الضعيفة ، أما العالم فإنه قادر على التفاعل ، أو يجب أن يكون قادراً على التفاعل ، وقادراً على التأثير الإيجابي فيمن حوله ، فهو قدوة لغيره شاء أم أبى ، وهو قدوة للآخرين شاء الآخرون أم أنكروا ، فهم يتأثرون به وإن جحدوا ذلك . والأستاذ الحق ، كما هو قدوة في الفكر ، وقدوة في السلوك الشخصي ، يجب أن يكون قدوة في السلوك الاجتماعي ، فيشارك الناس أفكارهم ناقداً ومصححاً ، بل ومقتدياً إذا لزم الأمر ، وكم من أفكار عظيمة لكتّاب عظماء ، كانت وليدة جلسة سمر ، أو وليدة ملاحظة عابرة . وسلوك الناس مدرسة مفتوحة بلا أسوار ، يكشف العالم كلما توغل فيها عوالم واسعة من السرائر النفسية ، وحقائق الحياة التي لا يستطيع أحد إدراكها وهو رهين محبس مغرور .
4) التواصل :
لا تكون العلاقة بين أستاذ وتلميذ ، أو بين معلم ومتعلم ، علاقة صحيحة إلا إذا قامت على التواصل الحق ، والتواصل الحق يعني أن يحمل التلميذ رسالة أستاذه ، ويتبنى مواقفه ، ويدافع عن أفكاره ، وينهج نهجه ، ويبلغ آراءه وأفكاره إلى الآخرين حتى تستمر الرسالة ، والتواصل الحق هو جسر يمتد بين الأجيال حاملاً رسالة علمية خلقية معينة تستهدف في النهاية رقي الفكر ، ومصلحة المجتمع ، وإذا انقطعت الصلة بين التلميذ والمعلم بمجرد انتهاء المهمة التعليمية – رسمية كانت أم غير رسمية – انتفى وجود الأستاذية ، ولم يعد تعبير " أستاذي " صالحاً للاستعمال إذ إن التواصل يعني مواكبة ما قد طرأ على أفكار الأستاذ واتجاهاته من تغير وتطور . 
وإنني لأشهد أمام الله تعالى أن كل سطر مما سبق لمسته حقيقةً في شيخنا سعيد اسماعيل علي أمدّ الله في عمره ومتّعه بالصحة ومتّعنا بالمزيد من عطائه الفذّ . ولعل لنا عودة للمزيد من الحديث عن جوانب مجهولة في شخصية هذا العَلَم الفريد . سيدنا الأجل وكهفنا الأظل ... تقبل قبلاتنا على يديك الكريمتين اللتين أنارتا عقولنا وهذبتا سلوكنا وعلمتانا كيف نفكر وكيف نتكلم .

مساحة إعلانية