مساحة إعلانية
ليست كل الحكايات المؤلمة في المؤسسات تُروى في الاجتماعات، ولا تُسجل في التقارير. بعضها يُقال بالصمت ، ويُقرأ في نظرات منطفئة، ووجوه أنهكها الانتظار. هناك، في زاوية من زوايا المكتب، يعيش موظف قصة حزنه بصمت؛ لا لضعفٍ في كفاءته، بل لأنه عالق في مكان لا يشبهه، فقط لأن مديره قرر ألا "يفرط به .
تحدثنا كثيرًا عن غياب الفرص داخل المؤسسات، لكن اليوم نواجه قصة أشد قسوة: الفرصة حاضرة، والطموح لا يزال نابضًا، إلا أن الطريق إليها مسدود بقرار فردي لا يراعي حلمًا، ولا يسمع صوتاً .
في عالم يفترض أن يكافئ الاجتهاد، قد تجد نفسك رهينة مكان لا يُقدر طموحك، فقط لأن أحدهم اختار أن يحتفظ بك. المفارقة الموجعة أن الحاجز ليس النظام أو نقص الفرص، بل هو قرار شخصي صادر من مدير يخاف فقدانك أكثر مما يؤمن بأهمية نموك.
تحت شعارات "الحرص على الكفاءات"، يُسجن بعض الموظفين في أقسامهم. يُمنعون من الانتقال، تُغلق في وجوههم أبواب التغيير، ويُجبرون على القبول. فهل يُبرر الخوف من خسارتهم التضحية بأحلامهم؟
الألم الحقيقي ليس في بقاء المكان، بل في ذبول الرغبة. حين يُحوّل المدير دعمه المزعوم إلى قيد، وحين يصبح التمسك بك وسيلة لفرض السيطرة، تتكسر داخلك أشياء كثيرة: الحماسة، الثقة، والشعور بالعدالة.
القرار، وإن بدا إداريًا، إلا أن أثره إنساني عميق. الموظف الذي يُمنع من التقدم، يبدأ بالتلاشي من الداخل. يشعر أنه غير مرئي، أن صوته لا يُسمع، وأن أحلامه لا تُؤخذ على محمل الجد.
كم من موظفٍ وُعد بالتقدير، ثم وُضع في زاوية، مُنع من الحركة، وأُخبر أن بقاءه "ضروري"، لا لأنه لا يُستغنى عنه، بل لأن من يقوده لا يريد أن يبحث عن بديل؟ ومتى تحوّل الوفاء للمؤسسة إلى ذريعة لسلب الإنسان حقه في النمو؟
تشير الدراسات إلى أن بيئة العمل التي تسودها هذه العقلية القامعة تدفع الموظفين إلى الرحيل، أو ما هو أسوأ: البقاء جسديًا، والانسحاب روحيًا. يتوقف العطاء، ويصبح العمل عبئًا، لا شغفًا.
46% من الموظفين، كما ذكرت دراسة حديثة، واجهوا مقاومة من مديريهم عند طلب الانتقال داخل المؤسسة. تُقابل رغباتهم بالرفض، ليس لأن البدائل غير موجودة، بل لأن هناك من يخشى "الفقد"، حتى لو كان الثمن هو كسر الروح.
والنتيجة؟ يبدأ الموظف في التلاشي، يفقد ولاءه، يبحث عن فرص في أماكن تُقدّر ما يحمله. وما أشد الوجع حين يدرك أن المكان الذي أعطاه قلبه، لم يمنحه فرصة للمضي قدمًا.
على الجانب الآخر، تظهر المؤسسات التي تُشجع على التنقل الداخلي كبيئة رحيمة، تفهم أن الاحتفاظ الحقيقي لا يكون بالقيد، بل بالاحتواء. تلك التي ترى في التنقل نوعًا من النمو، لا الخسارة، وتحصد ولاءً أعمق ورضًا أشمل.
نعلم أن بعض المديرين يواجهون صعوبات حقيقية، لكن الحل لا يجب أن يكون بخنق الطاقات. المدير الواعي يُعد بدائل، يُخطط، لا يختبئ خلف قرارات صارمة. لا يُقاس بقدرته على الإمساك بالموظف، بل بقدرته على صقل المواهب، ثم إطلاقها بثقة.
لعل من أنجح الحلول، اعتماد سياسات انتقال شفافة ودورية، لا تُقصي أحدًا، بل تحترم الجميع، وتوازن بين احتياجات العمل وطموحات البشر.
في النهاية، لا يُبنى الولاء بالإجبار، ولا تُقاس قوة المؤسسة بعدد من أُجبروا على البقاء". المؤسسات العظيمة تنمو حين تُزهر كفاءاتها. والموظف، كأي إنسان، لا يُطلب منه فقط أن يبقى، بل أن يُمنح سببًا حقيقيًا للبقاء.
الاحتفاظ الحقيقي؟ هو أن تمنح موظفك ما يجعله راغبًا في أن يواصل الطريق معك، لا أن تغلق عليه الباب، ثم تطلب منه أن يبتسم.