مساحة إعلانية
"حين يصبح الحلم وهمًا... والتمثيل طقسًا مفرغًا"
في كل موسم انتخابي، يتكرر المشهد ذاته، كأننا عالقون في شريط معادٍ لا يتبدل. ترتفع الشعارات، تتزين الشوارع بالوعود، وتُعاد علينا نغمة الأمل كأن أحدًا لم يسمعها من قبل. يقال لنا إن البرلمان القادم سيكون مختلفًا، إن التغيير آتٍ، وإن الشعب سيستعيد صوته... لكن القلب يعرف أن هذا الصوت اختنق منذ زمن، وأن الصدى الوحيد الباقي هو صدى الخذلان.
المؤشرات لا تبشر إلا بالتكرار، والوجوه لا تتغير إلا في ملامحها، أما الدور فهو محفوظ. نعرف النتيجة قبل أن تُكتب أوراق الاقتراع، وندرك أن ما سيأتي ليس إلا نسخة باهتة من ماضٍ لم يكن يومًا زاهيًا.
لم نعد أمام أزمة تمثيل، بل أمام انقراضٍ تام لفكرة التمثيل. القاعة التي كان يجب أن تحتضن صوت الناس، باتت مسرحًا للغائبين. تُلقى الكلمات ببرود، تمرر القرارات بصمت، ويعلو التصفيق أكثر مما يعلو أي سؤال. لا جدل، لا مراجعة، لا محاسبة. كأننا نؤدي طقسًا بلا قداسة، نُرضي به السلطة ونخدّر به الضمير العام.
لقد تآكل المعنى. ليس بسبب قلة الكفاءة، بل لأن المنظومة كلها بُنيت كي لا تسمح بالصوت، ولا تفسح للتعدد، ولا تحتمل الاختلاف. العملية السياسية أصبحت عرضًا محسوبًا، يدار من خلف الستار، يُعاد فيه تدوير نفس الوجوه، أو يُستعان بوجوه جديدة لا تحمل سوى قناع جديد على جوهر مفرغ.
أما الأحزاب، فلم تعد سوى ظلال تتقاتل على مقاعد بلا سلطة، وتتماهى مع اللعبة دون رغبة في كسر قواعدها، أو حتى مساءلتها.
وفي وسط هذا الفراغ، لم يعد البرلمان ساحةً للنقاش، بل ممشى صامتًا تمر عليه السياسات بلا اعتراض. اختفى صوت الناس الحقيقي، وحل مكانه صدى متكلف، هشّ، لا يجرؤ على الخروج عن النص.
الخطورة لا تكمن في غياب الصوت فقط، بل في اعتياد هذا الغياب، في أن يتأقلم الناس مع العدم، ويصبح البرلمان مجرد شاشة باهتة لا تعنيهم، لا تُغيّر في يومهم شيئًا.
وهنا يكمن التهديد الأكبر: حين يعتاد المواطن الغياب، يبدأ تدريجيًا بفقدان حضوره في كل شيء—في القرار، في المستقبل، في الحلم.
ومع الاعتياد، يبدأ الغياب بالتمدد... من الغياب عن التصويت، إلى الغياب عن القرار، إلى الغياب عن الأمل نفسه.
لكن، رغم كل هذا الحزن، لا يجب أن يُفهم الرفض كخنوع. نحن لا نستسلم، بل نرفض أن نُخدع. لا نُعادي الأمل، بل نُخاصم الوهم. فالإصلاح الحقيقي لا يولد من قاعة صماء، بل من كل مكان ما زال ينبض بالصدق: من الشارع، من الجامعة، من القلم، من الحناجر التي لم تَفقد بعد قدرتها على الاعتراض.
ربما لن يأتينا البرلمان الجديد بشيء، وربما سيواصل السير في نفس الدائرة المغلقة. لكن ذلك لا يمنعنا من أن نُصِر على الحفر... لا لننهار، بل لنفتح في هذا الجدار ثغرة، مهما كانت صغيرة. ثغرة يدخل منها ضوء خافت، يذكّرنا بأن الحلم، حتى وهو ينزف، يبقى أقوى من الخنوع.
أما التخلي عن الحلم تمامًا... فهو موتٌ بطيء، مؤلم، لكنه لا يُعلن نفسه. فقط يتسلل بهدوء، إلى أن لا يبقى فينا شيءٌ سوى الصمت.