مساحة إعلانية
في لحظة حالكة من ليل الأمس، دوّت الضربات فوق سماء إيران، لتعلن إسرائيل – بلا مواربة – بداية حرب جديدة. لم تكن مجرد عملية عسكرية عابرة، بل كانت بداية موجعة لمرحلة قد تطول، وتتوالى فيها الفواجع. وصفوها في تل أبيب بـ"الضربة الافتتاحية"، لكن ماذا عن الأرواح التي أُزهقت؟ والمستقبل الذي صار مرهونًا بالدخان والنار؟
العام الماضي شهد مشهدًا مختلفًا. ضربة إسرائيلية لإثبات الحضور، ورد إيراني "رمزي" للتأكيد على القدرة. أما الآن، فالأمر أشبه بلحظة كُسر فيها قيد الصبر، وسُمِح للدم أن يُراق على مذبح السياسة. إسرائيل ترى فرصة نادرة لإنهاء البرنامج النووي الإيراني، وأمريكا – التي تمسك بخيوط القرار الحقيقي – تلوّح بموافقة ضمنية، ما دامت الضربة تخدم أهداف المفاوضات ، في ظل قبول أمريكي مشروط.
الولايات المتحدة – صاحبة الكلمة الفصل في مثل هذه الحروب – لم تمانع الضربة، لكنها وضعت لها حدودًا وأهدافًا، أبرزها دفع طهران لتقديم تنازلات إضافية في المفاوضات النووية المتعثرة، والتي كان من المفترض أن تُستأنف جولتها السادسة غدًا في سلطنة عمان، وهو مصير بات غامضًا بعد التطورات الأخيرة، لا سيما بعد إعلان واشنطن أنها كانت على علم مسبق بالضربة، رغم تأكيدها عدم المشاركة فيها.
الضربة الإسرائيلية كانت قاسية، بكل المقاييس. أصابت منشآت عسكرية ونووية، وأطاحت بقيادات بارزة، بينهم رئيس الأركان وقائد الحرس الوطني، وسقط علماء كبار من علماء الذرة البارزين في برنامج إيران النووي. سقطوا... دون أن تلتقط وسائل الإعلام أنفاسهم الأخيرة، دون أن تُنكس الأعلام على أرواحهم. خلفت الضربة وجعًا لا يُحكى، وغضبًا لا يُطفأ.
إيران لم تصمت. أطلقت أسرابًا من المسيّرات في محاولة لإرباك الدفاعات الإسرائيلية، بينما يستعد الجميع للجولة التالية، تمهيدًا لهجمات صاروخية يُتوقع أن تتسارع خلال الأيام القادمة ، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الانفجارات.
ويبقى السؤال الأبرز: هل ستتدخل الولايات المتحدة إلى خط النار عسكريًا بشكل مباشر لحماية إسرائيل، كما حدث سابقًا؟ هل سنرى مشهدًا مكررًا من الحروب التي لم تندمل جراحها بعد؟ أم ستكتفي هذه المرة بالدعم المعلوماتي واللوجستي، وتترك تل أبيب في مقدمة المواجهة، على أمل أن يؤدي الضغط العسكري إلى إخضاع إيران في ملفها النووي؟
لطالما أرادت إسرائيل حربًا كهذه، وسعت منذ أكثر من 15 عامًا لإخماد طموحات إيران النووية، لكن الحكومات الأمريكية المتعاقبة كانت تدرك ثمن تلك الحرب، ومدى ما ستخلفه من حرائق في جسد الشرق الأوسط المرهق.
وها نحن اليوم أمام مشهد يتكرر: مفاوضات تُجهض، عائلات تُخلى من السفارات، وأجواء مشتعلة تنذر بأن القادم قد يكون الأسوأ. وعلى الرغم من تصريحات السفير الأمريكي بأن لا ضوء أخضر قد مُنح، تبقى واشنطن هي اللاعب الخفي، والراعي الذي لا يرفع عينه عن المعركة، حتى لو أنكر المشاركة.
وتقف المنطقة اليوم على حافة الانفجار الكبير. كل مدينة تُمسك أنفاسها، وكل أمٍّ تُصلي ألا يعود الليل على نعش. فهل ستنحني إيران أمام العاصفة، وتقبل بالشروط؟ وتتراجع عن طموحاتها النووية؟ أم ستُكمل طريق العناد، ولو كان الثمن وجودها ذاته؟
لا أحد يملك الإجابة. لكن ما نعرفه جيدًا، هو أن هذه الحرب – لو اشتعلت – لن تترك منتصرًا. فقط جثثًا، ودموعًا، وخرائط جديدة ترسمها أنامل الموت.