انهمكَ النَّجَّارُ الكهلُ في إصلاحِ بابٍ خشبيٍّ ضخمٍ بأحد البيوت القديمة بحى الهرم، كان كلما دقَّ مسمارًا انثنى أو أفلت منه فينظر إلى الأرض مُطِيلاً النظر، كأنه يُفكِّرُ في أمرٍ جَلَلٍ أو مُصَابٍ عظيم، وما يلبث أن يدقَّ غيرَه فيفلت منه أيضًا، وبين الحين والآخر يمسح عَرَقَه الغزيرَ بِكُمِّ جلبابه الرماديِّ الطويل. لم تكن تعجبه في حقيقة الأمر لهجةُ صاحبِ البيت الجافة، ولا تلك النظرات التي تَشِي بعدمِ الرضا، لكنَّ هذا ليس كلَّ شيء. لقد هَالَه حقًّا وجهُ الرجلِ المُتَجَهِّمُ منذ الصباح بلا أيِّ داعٍ، كان يرى أن الحياةَ لا تستحِقُّ أنْ نُضَيِّعَ فيها ثانيةً واحدةً على هذا النحوِ من التعاسة، أشفَقَ على الرجلِ وعلى ابنتِه الوديعةِ من تلك الملامحِ الجامدة، إذ شَعَرَ أنه ليسَ بمقدورِه حتى أن يتخَيَّلَ على أيِّ نحوٍ تكونُ انفراجَتُها، صمتَ قليلًا، ابتسَمَ مُتحسِّرًا حينما شعر أن ثمة شيئًا مشترَكًا في ملامِحِهما، فَكَّرَ أنْ يخوضَ مع هذا الرجل العَبُوسِ تجربةً ما ربما تكونُ غيرَ مأمونة العواقب..
وقف صاحبُ البيت يتابِعُه باستغرابٍ دون أن يتغيَّرَ وجهُه العابس، حتى سأله بشيءٍ من الانفعال:
ما الحكاية؟
لا أعرف يا باشا لماذا تعاندنى المسامير! الباب قديم وخشبه ناشف مثل الحديد وملآن بالعُقد.. «مكلكع»!
وما حَلُّه؟
- يلزم نطرِّيه بأيّ شيئ لكى أظبط الشغل
- بماذا نطريه ؟ تقصد أن ترشّ الخشب بالمياه أم ماذا؟!
مياه ..لا يا باشا، هذا لن ينفع معه مياه!
ماذا أحضر لك إذا؟ زيت؟
ابتسم النجارُ قائلًا:
يا باشا هذا الباب لا ينفع معه زيت نهائيا، هذا الباب يحتاج بلا مؤاخذة سمن بلدي ..
نظر إليه الرجلُ وقال له والعجب يَغْمُرُ وجهَه:
سمن بلدي؟ كيف؟!
سأشرح لك يا باشا، تحضر ملعقتين كبيرتين من السمن البلدى، تضعهم فى طاسة على النار وتكسر فيهم بيضتين، وتحضر معهم رغيفين من الخبز البلدى وقطعة جبن قديمة.. ظلت علامات الدهشة تمعن فى التهام وجه صاحب البيت فلم يَكَدِ النجارُ يُنهى عبارته حتى تحولت الدهشة إلى ضحكة مجلجلة بدا معها صاحبُ البيت كأنْ لم يضحَكْ من قبل، تمكلته السعادة، أخذ نفسا عميقا وقد فَطِنَ لما قَصَدَه الرجل مِن وراء طُرفَتِه، فأسرعَ يطلبُ مِنَ ابنته إعدادَ أفضلِ ما لديهم من طعام، وهو يُكَرِّرُ عبارتَه مُقهقِهًا، كان يضحكُ مِنْ أعماقِ قلبه، بدا كأنَّ كلَّ همومِ الدنيا المتراكمةِ فوق رأسه تنزَاحُ تدريجِيًّا مع رَنِينِ ضحكاته، كأنها جبالٌ شاهقةٌ من الجليد تتكَسَّرُ وتذوب .. فرحَ النجارُ وضحك هو الآخر وشعر برَوْعَةِ صُنْعِه وامتلأ زهوًا حينما أدرك أنَّ شمسَه التي أشرقَتْ للتوِّ بعد طولِ غيابٍ قد أمْعَنَتْ في اختراقِ نوافذِ الرجلِ المغلقة، وأن الوقتَ صارَ مناسِبًا جدًّا لكي يدفعَ بمزيدٍ من الطرائف، عَلَّه يكسِرُ أقفالَه الصَّدِئَة ويفتحُ أبوابَه كلَّها على مصارِيعها، تركَهُ صاحبُ البيت ضاحكًا منتشِيًا ووقف هو يتحسَّسُ بأناملِه العُقَدَ الخشبيةَ الصلبةَ التي تُشْبِهُ قسوةَ الحياة التي يعيشها، كان يتمنَّى حين يعود لوحدَتِه الثقيلةِ أو يُرْقِدُه مجدَّدًا مرضُه اللعينُ أن يَجِدَ مَن يُسَرِّي عنه ولو بطُرفةٍ كهذه. وبينما راحت ابنة صاحب البيت تُعِدُّ للنجار ما لذَّ وطابَ من الطعام، وقد غلبَتْ عليها فرحةٌ مفعَمَةٌ بالدهشة، كان أبوها يُردِّدُ لها الطُّرفةَ قبل أن يتنهَّدَ بارتياحٍ وهو يُفَكِّرُ في مهاتفة أقربِ أصدقائه لكي يحكِيَ لهم ببالٍ رائقٍ فُكاهةَ النجار!