مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

د. أيمن الداكر يكتب: هوامش على دفتر المحروسة "عملاقا ممنون"

2023-10-29 17:26:19 - 
د. أيمن الداكر يكتب: هوامش على دفتر المحروسة "عملاقا ممنون"
د.ايمن الداكر
منبر

من مخاض الفجر يولد النور، تدب فيه الحياة مرة آخري، ويرسل صوته الجميل مع نسمات الصباح مناديًا أمه إليوس (ربة الفجر)، فَتُجيبه برثاء شجي وصوت عذب تطرب له جميع الموجودات، وتسيل دموعها على خد الحياة ندى. أعجوبة تتجدد مع كل فجر وليد، فذلك هو نداء (ممنون) بطل أثينا -الذي قتله أخيل في حرب طروادة-عندما تتجسد روحه في التمثالين العملاقين القابعين على بداية طريق وادي الملوك في البر الغربي بالأقصر، وذلك هو رثاء الأم المفجوعة في ولدها، وقد أثار ذلك دهشة الجميع ودفع الإمبراطور الروماني (هادريان) أن يقيم هو وزوجته (سابينا) أيامًا عدّة في الأقصر بجوار التمثالين ليستمتعا بذلك الغناء العجيب كل صباح. في سنة 1350 ق.م شيد الملك العظيم أمنحتب الثالث (تاسع ملوك الأسرة الثامنة عشر) معبدًا جنائزيًا ضخمًا في طيبة الغربية، وقد أشرف على البناء المهندس المصري (أمنحتب بن حابو)، يتصدر المعبد تمثالان عملاقان للملك أمنحتب الثالث في وضعية الجلوس على العرش مرتديًا التاج الملكي، واضعًا يديه على رجليه وإلى يمين ساقه تمثال صغير لزوجته الملكة (تي)، وإلى يساره تمثال صغير للملكة الأم (موت أم ويا)، وعلى جانبي العرش نقوش تصور (حابي) إله النيل ونباتي البردي واللوتس (رمز مملكتي الشمال والجنوب) في دلالة على توحّد قطري مصر. نُحت كل تمثال منهما من قطعة واحدة من حجر الكوارتزيت الرملي الأحمر، ويبلغ ارتفاع كل منهما خمسة عشر مترًا بدون القاعدة (22 متر بالقاعدة تقريبًا)، وبمرور الأيام تهدّم المعبد ولم يتبق منه غير هذين التمثالين، وحدث في القرن الأول قبل الميلاد (27 ق.م) زلزال قوي في صعيد مصر أدى إلى تصدعهما خاصة التمثال الشمالي، فسقط الجزء العلوي منه وحدثت فيه تصدعات عديدة، وبسبب تغيرات المناخ والرطوبة واشتداد سرعة الرياح ومرورها في تصدعات التمثال المشبعة بالندى، كانت تصدر منه ذبذبات صوتية تشبه الموسيقى الحزينة، فزعم المؤرخون اليونانيون الذين زاروا مصر في حينها أن التمثال يغنى مع شروق الشمس، ونسجوا رواياتهم المفسّرة لذلك الغناء أن (أورورا) ربة الفجر عند الرومان –تقابلها إليوس عند الإغريق- قد استأذنت الإله (جوبتر) إله السماء لتزور ابنها البطل ممنون كل صباح، وفي هذه الزيارة تصدح بآهات عذبة وشجية، شاعت الأسطورة في الإمبراطورية الرومانية وجذبت إليها الوفود من كل بقاع العالم القديم، رعايا وحكّام وأباطرة مثل (هادريان وسيبتيموس سيفروس)، فقد ارتبطت تلك الظاهرة بحسن الطالع للزائرين، وسارع المؤرخون اليونانيون القدماء إلى زيارة التمثالين وتسجيل تلك الظاهرة كتابة على ساق التمثال وقاعدته، ونظموا فيها القصائد والملحمات الشعرية باليونانية، وتفاخروا بتسجيل أسمائهم وبعض حكام مصر في حينها على قاعدة التمثال. وقال المؤرخ والفيلسوف اليوناني القديم سترابو (اسطرابون عند العرب) أن الصوت مثل نفخ في آلة، وقال الجغرافي اليوناني القديم (بوسانيوس) إنه يشبه انكسار وتر القيثارة أو كقرع سبائك النحاس. وظًفت الدراما السينمائية عملاقي ممنون في مشاهد غاية في الروعة والجاذبية، فقد فاز فيلم (وجهان في الفضاء) للمخرج سمير عون بجائزة مهرجان دمشق السينمائي الدولي عام 2000 جائزة لجنة التحكيم الخاصة، وجائزة أحسن فيلم تسجيلي من المهرجان القومي للسينما المصرية عام 2000 م، يتحدث الفيلم عن تمثالي ممنون مصحوبا بأغاني حسن أبو ليلية ولوحات دافيد روبرتس. وظهرا كخلفية لمشاهد رائعة في أفلام أخرى مثل فيلم (عسكر في المعسكر) للفنان محمد هنيدي.   في سنة 200 م أراد الإمبراطور الروماني (سبتيموس سيفروس) اكتساب عطف ورضاء الوسيط الروحي للتمثال فقام بإصلاح وضع التمثال وتشققاته، لكنه أفسد تلك الظاهرة وتوقف الصوت إلى الأبد. لكن لم يتوقف توافد البشر من كل حدب وصوب لمشاهدة الإعجاز ودلائل عظمة الحضارة المصرية.

مساحة إعلانية