مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

د. أيمن الداكر يكتب: هوامش على دفتر المحروسة (صرخة نبي)

2024-01-21 23:09:56 - 
د. أيمن الداكر يكتب: هوامش على دفتر المحروسة (صرخة نبي)
د.ايمن الداكر
منبر

(لقد سُلِبت وثائق قاعة العدل، وأصبح المكان السري مكشوفًا، وطُرحت سجلات المحاكم أرضًا، وصار الناس يطأونها بالأقدام في الساحات العامة، والفقراء يفتحونها على قارعة الطريق، انظر لقد هُوجمت الإدارات العامة ونُهبت قوائمها، وأُذيعت أسرار التعاويذ السحريّة، لقد امتلأت البلاد بالعصابات حتى ليذهب الرجل إلى الحرث حاملًا درعه، وإن الرجل ليذبح بجوار أخيه فيتركه وحيدًا؛ لينجو بنفسه)
ذلك وصف لبعض وقائع ثورة عارمة، قام فيها الثوار باقتحام المواقع الحكومية والقضائية والدينية، مزقوا سجلاتها وأوراقها وألقوا بها في الساحات والطرقات العامة، مما أدى إلى انهيار السلطة الحاكمة، وضعف قبضة الشرطة على الناس، وبالتالي انتشرت الفوضى وعدم الأمان، وأصبحت الكلمة العليا في الشارع للبلطجية واللصوص، وهو وصف ينطبق على أي ثورة شعبية في العهد الحديث، مثل الثورة البلشفية في روسيا، أو ثورات الربيع العربي . لكن ذلك المقطع يعود إلى عهد قديم جدا، إلى أكثر من (2200 عام) قبل الميلاد، وبالتحديد إلى نهايات حكم الملك بيبي الثاني (2278- 2184 ق.م)، والذي تولى حكم مصر صغيرًا لا يتجاوز السادسة من عمره، وقد طالت مدّة حكمة إلى 94 عامًا وهي أطول مدّة حكم في التاريخ، وقد تميّزت بدايات حكمه بالحكمة والقوة والإنجازات العظيمة، لكن مع طول مدّة الحكم أصابت الشيخوخة أركان دولته ، وتجرأ حكام الأقاليم عليه فانتشرت الفوضى والمجاعة. سجّل التاريخ وقائع تلك الأيام عن طريق بردية الحكيم (إيبور)، وذلك في أربع عشرة صفحة تميّزت بالأسلوب الأدبي الراقي، ولبلاغتها أطلق عليها بعض المؤرخين اسم (صرخة نبي). وهي محفوظة الآن في متحف ليدن بهولند، ويرجع تاريخها إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وذكر الحكيم (إيبور) أحوال البلاد المهترئة والتي مهّدت لقيام تلك الثورة زما ترتّب عليها قائلًا: (استقل حكّام الأقاليم بأقاليمهم وانتشر نظام الإقطاع، حتى أصبح الفلاح عبدًا في أرضه، والعامل أجيرًا في ورشته، وانخفض منسوب النيل فغرقت البلاد في الفقر والجوع، وانتشر القتل والسرقة وقطّاع الطرق، وكلما لجأ الناس للكهنة يَشْكُون إليهم سوء الحال، يردّونهم غير مبالين بمعاناتهم، بل ويطالبونهم بالصبر والطاعة، ويعدونهم بحسن الجزاء في الآخرة) وناشد الحكيم إيبور ملك البلاد قائلًا: (إن القيادة والفطنة معك، ولكنك لا تستخدمها، بل تترك الأرض نهبًا للفوضى والخراب، أين أنت الآن ولهيب الثورة يملأ كل مكان، وهؤلاء المحيطون بك في لهو مقيم، يغذونك بالأكاذيب ويتقرّبون منك زلفى، وهم أصل ما وصلت إليه البلاد من ضعف وهوان).
ولم يجد الحكيم من مخاطبة الملك فائدة، وربما ظن أن الملك قد فقد مقدرته على الفعل، وأن الآوان قد فات وحانت لحظة ميلاد الثورة. (وبلغ منا اليأس غايته، فلا حاكم يعدل، ولا قانون يسود ولا رحمة تهبط، فانطلقت بين قومي أدعوهم إلى العصيان ومحاربة الظلم بالقوة، وسرعان ما استجابوا إلى النداء، فحطّموا حاجز الخوف والتقاليد البالية، ووجهوا ضرباتهم القاتلة إلى الطغاة والظالمين، وسرت النار المقدّسة إلى جميع البلاد، وانطلقت قذائف الغضب الأحمر على الحكّام والموظفين ورجال الدين والمقابر). ورفع الثوار شعارات منقوشة على قطع (الأوستراكا) مثل (الأرض لمن زرعها والحرفة لمن احترفها، وليس للسماء وصاية على الأرض)، فكانت كما قال بعض المؤرخون أول ثورة شيوعية في التاريخ. لكن النتائج جاءت بما لم يتمنّاه الناس، فقد عمّت الفوضى البلاد، مما أدى إلى الدمار والخراب. (هجم الناس على قبور الملوك، وهجم الناس على طعام الخنازير، فلم يجد أحد طعامه وانقلبت الأوضاع في المجتمع، ولم يعد أحد يضحك، حتى الأمهات لم يعدن ينجبن، والمرأة التي كانت ترتدي الكتّان تمشي ممزقة الثياب، والتي كانت تنظر لوجهها في المرآة لم تعد ترى وجهها إلا على سطح الماء، لم يعد أحد يحترم الكبير ولا العالم ولا رجل الدين، وكان الناس يقولون: يا ليتنا متنا قبل هذا؟ ويقول الأطفال: لماذا أتوا بنا؟ واللصوص صاروا أغنياء ولم يعد أحد منهم بحاجة إلى أن يتزوّج، ففي فِراشه كثيرات من بنات العائلات الغنية، من أجل الطعام والمأوى، ولا أحد يخاف من رجال الأمن ولا النبلاء ولا الكهنة ولا الأسر المالكة، لم يعد لها وجود، إنها تتوارى أو تهرب، أو تلقي بنفسها في النيل). وأصبح كرسي الحكم لعبة خائبة، كما قال الحكيم إيبور: (لقد أصبح يجلس على كرسي العرش سبعون فرعون، بدلا من فرعون واحد، كانوا دائمًا على خلاف فيمن يعلو صوته على الآخرين). وقد صنفهم المؤرخ المصري القديم (مانيتون) بأنهم حكّام الأسرة السابعة، وأنهم حكموا لمدة سبعين يومًا، وقال عنهم الكاهن (نفرايهو): (ذهب ملك ليحل محله سبعون حاكمًا يملأ الشر قلوبهم)، وقد فسّر بعض المؤرخين ذلك بكونهم مجلس قيادة الثورة وقد اتفقوا فيما بينهم أن يتولى كل واحد منهم الحكم ليوم واحد فقط، أو أن الضعف قد أصاب مؤسسة الحكم، فلم يستطيع حاكم البقاء في منصبه أكثر من يوم واحد. وامتدّت تلك الفوضى لأكثر من 150 عامًا بما سمي بعصر الإضمحلال الأول، حاول خلالها بعض الحكام إصلاح أحوال البلاد والتغلّب على الفوضى ونشر العدالة والأمن بين الناس، لكن تلك المحاولات باءت بالفشل، بسبب التفكّك الشديد في أركان الدولة، وموجات القحط والمجاعة المتتالية، وقد توقّف فيضان النيل سبع سنوات متتالية للمرة الثالثة في تلك الفترة. إن النوايا الحسنة لهذه الثورة العظيمة لن تعفيها من الأثار السلبية المفزعة التي خلّفتها في المجتمع المصري القديم سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، حتى نجد عازف أعمى يلف البلاد في عازفًا (إن أحدًا لم يأت من هناك –يقصد الموت- ليخبرنا كيف أمسوا ويريح قلوبنا، حتى نرحل نحن الآخرين إلى المكان الذي رحلوا إليه). وقد وُجِد ذلك في نقوش على ورقة بردي في مقبرة أحد ملوك الأسرة الحادية عشر، سميت بأنشودة (عازف القيثارة). وفي نص آخر مجهول المصدر سمي بحوار إنسان شئم الحياة وروحه، وبعدما سنوات طويلة أخرى، تحسّنت أوضاع البلاد لكن القلب المصري القديم ما يزال مُترعًا بالأوجاع منها، فنجد الكاهن (خع خبر رع سنب) في الأسرة الثانية عشر، يتذكّر تلك الأيام قائلًا في تأملاته: (وعندما أريد أن أتحدّث عن ذلك ينوء جسمي بحمله، وأشعر بالبؤس في قلبي المحزون، إن الناس يستيقظون على الشر كل صباح، والقلوب لا تنبذ الشر منها.)

مساحة إعلانية