مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

د. أيمن الداكر يكتب : هوامش على دفتر المحروسة - إياحة قمر الزمان (15)

2024-03-10 16:48:16 - 
د. أيمن الداكر يكتب : هوامش على دفتر المحروسة - إياحة قمر الزمان (15)
د.ايمن الداكر
منبر

منذ 3500 عام تقريبًا، استشهد الملك سقنن رع في أرض المعركة دفاعًا عن أرض الوطن، وأظهرت المومياء الملكية أثار الإصابات البالغة التي لحقت به، فقد امتلأت الجمجمة بالكسور والجروح نتيجة الضرب بالحراب والبلاطي، اخترقت إحداها العظم أعلى الجبهة، وتحطم صدره وأنفه بضربات المقامع الحديدية، وأثار طعنة بالخنجر خلف أذنه اليسرى نفذت حتى العنق، وقد وجد لسانه مضغوطًا بشدة بين الأسنان؛ نتيجة الألم الشديد الذي كابده الملك في لحظات استشهاده.
وكانت زوجته الملكة (إياح حتب) امرأة قوية وعظيمة، أودعت زوجها في مقبرته ودفعت بولدها (كاموس) لاستكمال جهاد أبيه، فكافح وجاهد وحقق انتصارات عظيمة على الهكسوس، حتى استشهد على مشارف مدينة (امبوس) في شمال مصر، وذلك بعد معركة كبيرة انتصر فيها عليهم نصرًا عظيمًا، لكن طعنة الغدر جاءته من الخلف من أحد جرحى الهكسوس، فأوصى أخيه (أحمس) أن يبلغ جدته العظيمة (توتي شيري)، أنه لحق أباه ومات ميتة (سقنن رع)، فدفعت (إياح حتب) بولدها الثاني (أحمس) ليكمل مسيرة أبيه وأخيه فداء للوطن، وكان (أحمس) ما زال صغيرًا فعاونته في تدبير شئون الجيش والبلاد، وعملت جاهدة على تجنيد الشباب وتحفيزهم على استرداد الوطن المسلوب، حتى تحقق النصر ونجح (أحمس) في تحرير البلاد وتطهيرها من دنس (الهكسوس) واستولى على عاصمتهم (أواريس)، ثم تعقبهم في فلسطين حتى فروا إلى الصحراء التي جاءوا منها، وقد شاركت الملكة (إياح حتب) في بعض الحملات الحربية، وكانت أول امرأة في التاريخ تحصل على رتبة عسكرية، ومنحها الملك وسام (الذبابة الذهبية) تقديرًا لشجاعتها ودورها في حرب التحرير ضد الهكسوس، وهو أرفع وأرقى وسام في الدولة في ذلك الوقت، ويمنح لمن لهم بطولات في المعارك العسكرية، وتكريمًا لها؛ شيد أحمس عمودًا في الكرنك بالأقصر، سجل عليه إنجازاتها وامتنان شعب مصر لها، ودون عليه تلك الكلمات الخالدة: (قدموا المديح لسيدة البلاد، وسيدة جزر بحر إيجة، فاسمها رفيع الشأن في كل بلد أجنبي، فهي التي تضع الخطة للجماهير، زوجة الملك وأخته الملكية، لها الحياة والسعادة والصحة، وهي أخت ملك وأم ملك، الفاخرة والحاذقة التي تهتم وتضطلع بشؤون مصر، ولقد جمعت جيشها وحمت هؤلاء، فأعادت الهاربين وجمعت شتات الذين هاجروا، وهدأت روع الوجه القبلي وأخضعت عصاته، الزوجة الملكية إياح حتب العائشة).
فرح المصريون بتحرير البلاد فرحًا شديدًا، وراحوا يرددون الأناشيد عند القصر الملكي وفي شوارع البلاد (وحوي يا وحوي إياحة)، ومعناها افرحي، افرحي يا إياحة، فكلمة (إياحة) بالفرعونية تعني القمر، وهو لقب أطلقه المصريون على ملكتهم المحبوبة، فكان لقبها (قمر الزمان، والقمر السعيد، ومحبوبة القمر)، وتوارثوا الأغنية على مر العصور وقيل معناها: (أهلا، أهلا بالقمر.) 
لم تترك الملكة (إياح حتب) معابد أو بنايات شاهقة، ولم يُعثر على مقبرتها الملكية حتى اليوم، لكن في سنة 1859م عثر مارييت باشا (أوجست مارييت) مؤسس المتحف المصري على التابوت الخاص بالملكة إياح حتب مدفونا في تراب منطقة (ذراع أبو النجا) في القرنة في البر الغربي بالأقصر، وكانت المومياء في حالة سيئة جدًا، أرسل (مارييت) التابوت إلى متحف بولاق على ظهر سفينة خاصة، وكان يحوي بداخله المومياء الملكية والمجوهرات والأوسمة الخاصة بالملكة، لكن مدير مديرية قنا اعترض مسار السفينة هناك، وقام بنزع الأكفان عن المومياء الملكية مما تسبب في تحطم عظام الملكة، ونزع مجوهراتها وأرسلها إلى سعيد باشا والي مصر، تتبع (ماريت باشا) السفينة ونجح في استعادة التابوت واسترجاع محتوياته وارسالها إلى متحف الأثار ببولاق، وأرسل المجوهرات إلى سعيد باشا الذي احتفظ بقلادة أهداها لإحدى زوجاته، وهي سلسلة ذهبية يتدلى منها جعران من الذهب المطعم بحجر اللازورد، وهي من القطع الذهبية فائقة الجمال، ثم أعادها لتحفظ في المتحف المصري مع القطع الأخرى. 
ومنذ 85 عام تقريبًا، كتب حسين حلمى المانسترلي (صاحب قصر منيل الروضة) الأغنية الرائعة (وحوي يا وحوي، إياحه)، وقام أحمد الشريف بتلحينها، وتغنى بها أحمد عبد القادر لأول مرة سنة 1937م، وأصبحت تلك الأغنية أيقونة استقبال أهل مصر لشهر رمضان الكريم، وقد توافقت كلماتها مع استقبال المصريين لملكتهم المحبوبة قمر الزمان (إياحة) وفرحتهم بإطلالتها البهية عليهم، وقيل أن كلماتها مستمدة من اللغة القبطية ومعناها (اقتربوا، اقتربوا لرؤية الهلال)، ويظن أخرون أنها مقتبسة من أغنية من العصر الفاطمي تقول:
أحوى، أحوى، إياها. 
بنت السلطان، إياها.
لابسة القفطان.
وتميزت المحروسة بطقوس خاصة في استقبال شهر رمضان، تعمها الفرحة والبهجة وادخال السرور في قلوب الأطفال والكبار، من رفع الرايات والزينة والفوانيس في الشوارع والشرفات، ويرجع أصل هذه الاحتفالات إلى اليوم السابع من شهر رمضان سنة 362ه، وذلك عندما خرج جوهر الصقلي وأهل مصر من منطقة بين القصرين إلى مشارف الصحراء الغربية عند الجيزة؛ لاستقبال الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، حاملين الرايات والفوانيس لإضاءة الطريق له، وكان الأطفال يرددون (حالو يا حالو) طلبا للتحلية والهدية من الخليفة، وكلمة (حالو) هي لفظ قبطي أصله فرعوني بمعنى (الشيخ أو الرجل المسن)، وقد ارتبط شهر رمضان بالفوانيس في يد الأطفال منذ العهد الفاطمي، فقد أمر الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله بمنع خروج نساء القاهرة إلى الأسواق، وعندما جاء شهر رمضان سمح لهن بالخروج على أن يرافقهن غلام يحمل فانوس لينير الطريق؛ ليعلم المارة أن هناك امرأة تمر بالطريق فيفسحون لها.
ثم جاء الشاعر أحمد حلاوة ليقتبس تلك الكلمات في الأغنية البديعة، (حالو يا حالو، رمضان كريم يا حالو، حل الكيس وادينا بقشيش لنروح مانجيش يا حالو).

مساحة إعلانية