مساحة إعلانية
الشاعر العربى الجاهلى "طرفة" ، هو عمرو بن العبد بن سفيان ، وُلد فى منطقة المحرق ( البحرين حاليا) ، من أبوين شريفين فى قبيلة بكر
وأصبح من شعراء الطبقة الأولى ، فهو صاحب إحدى المعلقات العشر - و المعلّقات قصائد اختيرت كأجود ما قيل من الشعر فى عصرالجاهلية -و لقب"طرفة " لقب غلب على اسمه ، (و"الطرفة " - فى الأصل - واحدة الطرفاء، وهو الأثل) قال قصيدته (المعلّقة) وهو صغير السن ، و مطلعها :
لِخوْلَةَ أطلالٌ بِـبُـرقَةِ ثَهْـمَدِ
تلوحُ كباقى الوشم فى ظاهرِ الـيَـدِ
(و مما يذكر أنّ شاعر الحلمنتيشى الساخر "حسين شفيق المصرى" نسج على غرارها - على نفس البحر الشعرى ، ونفس القافية - إحدى مُشَعلقاته، والمشعْلقات هو الاسم الساخر للمعلّقات، فقال:
( لِـزَيْنَــبَ دكّانٌ بِحارةِ مُنْجِدِ
تلوحُ بها أقفاص عَـيْشٍ مُقَدّدِ )
ذلك الثائر" طرَفة " ، الذى امتلك البيان الساحر فى سن صغيرة ، والذى تفيض الحكمة على لسانه ، يُحكى أنه عندما كان طفلا، سمع الشاعر الكبير " المسيّب بن علَـس " قال بيتا يسِمُ فيه بَعيره بسِمةٍ كانت خاصة بإناث الإبل - أى النُّـوق - صرخ "طرفة" ، وقال : " استنوق الجمل" - أي صار الجملُ ناقةً - فغضب المسيّب ، و سأل : من الطفل ؟ ، فقالوا "طرفة بن العبد " فقال " ليقتلنّه لسانه" وقد حدث ، فإن طرفة مات - أو قُتل- وكان عمره يتراوح ما بين (٢٥ و ٢٦ ) سنة وهى المفارقة التى تكشف عن أن الحكمة لا تعنى عدد السنوات والعُمر ، بقدر ما تعنى الخبرة والمرارة والأوجاع التى يعيشها الإنسان … !
فقد نشأ "طرفة " يتيما ، و قد انعكست عليه - سلبا - وفاة والده المبكرة ، وبدأت معاناته مع الأقارب الذين لم يرِث عنهم سوى شاعريتهم ، فأهله كسبوا ماله ، وهو كسب الخلود فى التاريخ .. ولأن الإنسان لا يتوقع من أقاربه إلا كل الخير والإحسان ، فإذا حدث غير ذلك ، وفوجئ بظلمهم له ، كانت الصدمة شديدة الإيلام ، وهذا ما قاله - بالضبط - "طرفة" فى بيته الشعرىّ الخالد :
وظلمُ ذَوِى القُربَى أشدُّ
مَضاضةً
على المرء من وقْع الحُسام المهنّدِ
مولده كان فى مطلع العقد الخامس من القرن السادس الميلادى ، ومات قبل مولد النبى ( صلى الله عليه وسلم ) بخمس سنوات تقريبا ، وبالمناسبة ، كان النبىّ ( صلى الله عليه وسلم ) يذكر - أحيانا - بعضا من شعر "طرفة" ، لكن بعد أن يخرجه من سياق الوزن الشعرى - بالتقديم والتأخير - وكان سيدنا أبو بكر (رضى الله عنه) يعيد أصل البيت ، اعتقادا منه أن النبى لا يحفظ النص الأصلى ، فيعيد النبى( صلى الله عليه وسلم ) نفس ما قاله ، يفعل ذلك - تحسّبا - حتى لا ينطق شعرا ..!
كانت معلّقة " طرفة " من أكثر المعلّقات فلسفة فى شئون الحياة وحكمتها ، وكان
" طرفة " دائم الترحال وراء الكلأ والماء ، أكسبه التنقل والحياة الطليقة خبرة بأحوال الناس والوجود ، فكان أعمق وعيا ، ومعلقته متعددة الأغراض والأفكار ، و ليست إلا تصويرا لهذه العذابات، لإنسان شريد، استبدل بالجدّيّة التهكم من كل شئ ، بفلسفة عميقة ، كذلك بها تجليات موضوعية ذات أبعاد اجتماعية ونفسية تجاه قضايا الوجود ، وقد ذكر فيها الموت والدار الآخرة ، ويُروَى أنه قد هجا "عمرو بن هند " فقتله ، ولذا لقّبوه بـ " الغلام القتيل " ، وكان له من نسبه العالى ما يحقق له هذه الشاعرية ، فجدُّه ، وأبوه ، وعمّاه المرقّشان ، وخاله المتلمس ، كلهم شعراء ، فهو أشعر الشعراء - بعد امرئ القيس - ....!
بدأ " طرفة " معلّقته بذكر الحبيبة " خولة" ، من خلال الوقوف على أطلالها (والأطلال عند البدوى هى آثار وبقايا ، تكاد تنمحى لطول الزمن وتأثير الرياح ، وتغطية الرمال لها، وهى عندئذ ولعدم وضوحها تشبه الوشم القديم الذى بقى منه شئ غير واضح ، يظهر على سطح الكف) و حين وقف على الأطلال ظهرت عليه علامات الأسى والحزن ، حتى كاد يهلك وينتهى، فهو القائل
( وقوفًا بها صحبى علىّ مطيّهم
يقولون لا تهلك أسًى وتجلّدِ)
وديوانه - ضمّ المعلّقة- اعتُبر مواجهة للحياة بجسارة ، و بسببه عُدّ "طرفة" من أجود الشعراء الجاهليين المبرّزين ، فشعره يمزج بين الرونق والجزالة ، وعذوبة المشرب ، فقد كان كلما طالت قصيدته حسُنت ، فهو شاعر مطبوع .. ولأنه ذو حسب فى عشيرته - هذا الأمر ساعده فى شعره - ونلاحظ أن لغته كانت ناصعة بسيطة ، ليس فيها تجويف ولا فظاظة ولا تقعّر ، مما يدل على كمال الحكمة والرغبة فى إيصال المعنى بأبسط الطرق ، وهى قمة الفلسفة ..!