مساحة إعلانية
نحن نعلم أن قوالب الغناء العربى تنوعت تنوعا تنوّعا متباينا ، واشتهر من هذه القوالب
( القصيدة ، و الموشّـح ، والــدُّ و ر ، و الطقطوقة ، والمـوّال ، و الـقَـدّ ، والمونولوج ،
والدّ يالوج ..)
وبعض هذه المسمّيات معلوم - تسمية. ومُـسَـمّى - وبعضها يلتبس فى أذهان كثير من الناس ، ومن هذه التسمّيات الملتبسة ، ويعتقدون أن الطقطوقة والأغنية الحديثة شيئا واحدًا ، فى حين أن ذلك غير صحيح ، إذ أن هناك فرقا بين كل من الطقطوقة والأغنية ، يظهر عندما نتعرف على ، الفروق فى النظم الشعرى ، وطريقة التلحين ، وكذلك أسلوب الأداء ..!
فالطقطوقة ، هى نوع من الموسيقى شرقى الأصل ، و هى لون من ألوان الغناء العربى ، عُـرِف بمصر فى الأربعينيات من القرن العشرين ، و أشهر هذه الطقطوقات ، طقطوقة ( على بلد المحبوب ودّينى ) للسنباطى ، و سيدة الطرب العربى أم كلثوم ، وكتب كلماتها أحمد رامى
و تتكون ، من المذهب ، وثلاثة كوبليهات
تقول كلماتها
المذهب :
(على بلد المحبوب ودّينى …. زاد وجدى والبعد كاوينى)
……
١- يا حبيبى دا انا قلبى معاك … طول ليلى سهران ويّاك
تتمنّى عينى رؤياك … أشكيلك وانت تواسينى
…………
(على بلد المحبوب ………المذهب )
*
٢- يا هنايا لـمّـا افْرَح بيك … واتْهَـنّى بْـقُـرْبَـك واناجيك
وِعْـنَـيّـا. تِـبْـقَى فى عْـنيـك… أحكيلك و انت تراعينى
…
( على بلد المحبوب …… المذهب )
*
٣- يا مْـسـافِـر على بحر النيل … أنا ليّـا فى مصر خليل
مِـن حُـبّـه ما بانام الليل … على بلد المحبوب ودّينى
…
( على بلد المحبوب …… المذهب )
وكتب هذا النوع من النظم فى مطلع القرن العشرين شعراء منهم يونس القاضى ، و بديع خيرى ، وأحمد رامى ، وبيرم التونسى ،
و لـحّن قالب الطقطوقة سيد درويش ، و محمد القصبجى ،. و زكريا أحمد ، و محمد عبد الوهاب ، و رياض السنباطى ، ثم تبعهم كثيرون
فكثُر وشاع العديد من الطقطاطيق على ألسنة الناس ، بل و راج انتقال ألحانها من جيل إلى جيل ، فذاع صيت طقاطيق سيد درويش ، ومنها ( خفيف الروح ) ، و( أهُه ده اللى صار ) ، و ( طلعت يا محلا نورها ) ، و (زورونى كل سنة مرة ) ،
ولمحمد القصبجى ( ما دام تحب بتنكر ليه ) ،
وللشيخ زكريا أحمد (غنيلى شوىّ شوىّ ) ، و ( يا حلاوة الدنيا )
ولمحمد عبد الوهاب (خايف اقول اللى ف قلبى )، و (إمتى الزمان يسمح يا جميل )
وأصبح شكل الطقطوقة من أشهر الأشكال الغنائية فى النصف الأول من القرن العشرين .. إلى أن احتلّ قالب الأغنية الحديثة مكان الصدارة بعد ذلك ..!
هذا هو الشكل التقليدى للطقطوقة ، والذى استمر ، ألى أن جاء زكريا أحمد - أحد عمالقة الموسيقى العربية - و طّوّ ر قالب الطقطوقة ، و ارتقى بها شوطا عظيما ، بحيث أصبح لكل غصن لحن مختلف ( مثلما فعل فى طقطوقة " يا حلاوة الدنيا " ) وهى من كلمات بيرم التونسى ،
وقالب الطقطوقة يتطلب أسلوبا خاصا فى التلحين ، وكتابة الزجل ، والإلمام بالقواعد النغمية للمقام الذى يتم الـتلحين فيه ، ويُراعَى فيه الانتقال اللحنى حسب ما تقتضيه قاعدة الانتقال المقامى من جهة ، وحُسن تصرف الملحن فى إدخا بعض الأنغام العرضية دون المساس بأصل المقام
وعليه فإن هذا الشكل من الغناء العربى الذى يميّزه عن غيره ، طريقة النظم والتلحين والغناء ، يتكون من حيث البناء المعمارى الشعرى ، من مطلع ، وثلاثة مقاطع ، (وبالإفرنجى يسمون ا لمقاطع هذه كوبليهات - جمع كوبليه - والمطلع ، يسمّيه الموسيقيون " المذهب " ) ، أى تتكون الطقطوقة - شعريا - من مذهب و ثلاثة كوبليهات ، والشعراء يطلقون على هذه المقاطع لفظ " الأغصان " ، و غالبا تصاغ كلها من بحر شعرى واحد ، كما يتم أداؤها بلحن واحد متكر ر ،
و يعتمد لحن الطقطوقة على بداية الغناء بالمذهب ، ثم العودة إليه بعد كل كوبليه ، أى يُعاد تكرار المذهب ، كذلك يُختم به الغناء ..
إذن ، تتميز الطقطوقة بخاصية فريد هى احتوائها على مذهب مستقل ، يتكرر بين المقاطع الغنائية ..
وعادة تُعرف الطقطوقة بلحن مذهبها ، فإن نجح لحن المذهب ، نجح اللحن كله ، والعكس بالعكس ، ولهذا ، يُكـرّس الملحن أكبر جهده للتركيز الشديد فى لحن المذهب ، الذى هو مفتاح النجاح .. كما استخدم هذه الميزة - أيضا- الشعراء ، فحاول كل منهم وضع أقوى ما يمكن من الألفاظ المؤثرة ، والتعبيرات الجذابة ، فى كلمات المذهب لنفس السبب . .
أما الميزة الكبرى لألحان الطقطوقات ، فهى قابلية المذهب للحفظ بتكرا ر غنائه بين المقاطع ، لذا فهو أقرب جزء - من الطقطوقة - للجمهور ، وكثيرا ما نجد الجمهور يحفظ المذهب و يردّده مع المغنى ، ويترك له بقية الغناء ، ليستعرض فيه صوته ، وتمكنه من الأداء . . والسبب فى ذلك يرجع إلى استخدام الملحنين للتراكيب السهلة الجذابة ، فى تلحين المذهب حتى تلتقطها أذن الجمهور ، و إرجاء الإبداعات الفنية الثقيلة و المركبة ، إلى الكوبليهات التى يؤديها المطرب بمفرده
وفى سبيل ذلك - أيضا-لجأ كثير من الملحنين إلى استخدام " الكورَس " - أو الردّيدة - فى المذهب ، دون المطرب ، الذى ينتظر فراغ " الكورس" من الأداء ، فيبدأ فى غناء الكوبليهات. .
ولكى نقف أكثر على دقائق تركيب الطقطوقة ، نلقى مزيدًا من الضوء على طقطوقة( أهُـه ده اللى صار ) وهى من ألحان سيد درويش ، وأشعار بديع خيرى ، أو من كلمات يونس القاضى -حسب بعض الأقوال - كمثال للطقطوقة المكتوبة والملحنة بالمواصفات الأساسية ، تقول كلمات الطقطوقة :
المذهب :
(أ هُــــه دَ ه ا لـلى صــــا ر و ا دِ ى ا لـلـى كــا ن
مــا لَــكْــش حَـــــقّ تْــلُـــــو م عَــــــلَـــيّــــــــا )
*
١- تــلــو م عَــلَـــيَّـــا ا زّ ا ى يــا سِـــــيـــدْ نَــا
وِ خِـــيــر بِـــلا دْ نَــا مـا هُـــو ش فِـى إ يــدْ نَــا
قُــو ل لِى عَـن أ شـــيــا ء تِــفِـــــــــيـــــدْ نَــا
وِ بَــعْـــــدَ هَـا ا بْــقَـــــى لُـــــــو م عَـــلَـــيّــــا
……
( أ هُــه د ه ا لـلــى صــا ر ……. المذهب)
*
٢- مَــصْــــر يــا أُ مّ ا لـــعَــــجَــــــا يِـــــــب
شَــعْـــبِــك أ صِـــيـل وِ ا لـخِــصْـــم عــا يِـــــب
خَـــلّــى بــا لِــــــك مِ ا لـــحَـــــْبــا يِــــــــــب
دُ و لَا أ نْــــصـــــــــــا ر ا لـــقَـــضِـــــــــــيّـــــة
……
( أ هُــه د ه ا لـلــى صــا ر ……. المذهب )
*
٣- بِــد ا ل مــا يِــــشْــمَـــت فِــيـــنَـا حـا سِــــد
إ يــــدَ ك فِـى إ يـــدِ ى قُــــو م نِــجـــا هِــــــــد
وِ ا حْـــنَـــا نِــبْــــــقَـــى ا لــكُـــلّ و ا حِــــــــد
وِ ا لأ يَـــا دِ ى تْــــصِــــيــــر قَــــــوِ يّــــــــــة
………
( أ هُــه د ه ا لـلــى صــا ر ……. المذهب )
*
هذا الشكل البسيط والمباشر للمربعات ( وهو شكل تقليدى تكرر كثيرا على مدار القرن العشرين ) يتناسب مع الوضوح الشديدفى مضمون الكلمات ،التى تعكس فى الغصن الأول ببساطة وعمق تشخيصا لما آل إليه الوضع فى مصر عشية ثورة 1919 ، وبشكل ينطبق بدقة - فى حقيقة الأمر على الأوضاع عشية أى ثورة ، فهل تقوم الثورات إلا لأن ( خير بلادنا ماهوش فى إيدنا )
يلى ذلك الدعوة فى الغصن الثانى لوحدة صف المناصلين ( إيدك فى إيدى وقوم نجاهد) وعى الشرط الضرورى لانتصار الثورة ، و أخيرا يأتى الغصن الثالث ، ليختتم القصيدة بإعلان الإيمان المطلق بقدرة " الشعب الأصيل " ، على الإتيان بالعجائب المطلوبة للانتصار على "كل خصم عائب"
سيّد درويش قد التزم تماما ، بالقالب التقليدى ، فنسمع المذهب المكون من بيت واحد هو
(أهـه ده اللى صار وادى اللى كان .. ما لكش حق تلوم عليّا )
ويلى هذا المذهب ، ثلاثة كوبليهات ( مفردها "كوبليه" ) ، صيغت كلها على صورة مربعات ، يتكون كل منها من ثلاثة أشطار بقافية موحّدة ، والشطر الرابع يعود بنا ، بقافية شبه المقطع الأخير فى المذهب -
ففى المربع الأول ، نجد الأشطار الثلاثة بقافية موحدة ( سِـيدنا / إيـدنا / تفيـدنا )، ثم فى الشطر الأخير ( وبعدها ابقى لوم عليّا ) فيعود بنا إلى المقطع الأخير من المذهب ( الذى سنطلق عليه مجازا "قافية المذهب")
ثم يتكرر نفس النسَق فى المربعين الثانى ( عجايب / عايب / حبايب ) ثم نعود إلى ( دولا انصار القضية )
ويتكرر ذلك فى المربع الثالث ( حاسد / نجاهد / واحد) ثم نعود إلى ( والأيادى تصير قوية )
وما فعله سيد درويش ، فعله رياض السنباطى فى طقطوقة ( على بلد المحبوب ودّينى ) الشهيرة ،
كلاهما صنع لحنا واحدا ، لم يتغير ، للكوبليهات الثلاثة
وكما قد تُلَـحّن كل الكوبليهات بنفس اللحن ، خاصة إذا كانت من نفس الوزن والبحر الشعرى ، فقد يتخلّل المقاطع " لِـزَم " موسيقية - جمع " لازمة وعى نغمات موسيقية تتخلل اللحن "- تطول أو تقصر حسب رؤية الملحن . .
وقد يتم تلحين كوبليهات الطقطوقة بألحان مختلفة ، تتعدد مقاماتها ، وإيقاعاتها ، كما حدث فى بعض ألحان سيد درويش المسرحية ، التى صيغت على قالب الطقطوقة ، حيث أدخل بديع خيرى مقطعا ختاميا من وزن بحر مختلف عن سائر النظم ، وتبع ذلك تلحين هذا المقطع بلحن مختلف ، والانتهاء به - كمختتم - بدلا من العودة إلى المذهب ( كما فى لحن " الحلوة دى قامت تعجن " ) ، و لحن (الشيّالين ) ، وبذلك خرجت هذه الألحان من قالب الطقطوقة التقليدى ، وذلك لغرض التعبير المسرحى ..!
عندما طرأ تغيير على قالب الطقطوقة ، بحيث يتم الرجوع بعد كل كوبليه ، إلى الجزء الأخير من المذهب ، وليس المذهب كله ، فظهرت بذلك الأغنية الحديثة ، و من قوالب الغناء العربى ، راح المنولوج ، (أو النظم المتواصل الذى لا يحتوى على مذهب ، وليس به رجوع إلى كلام أو لحن البداية ) ينافس الطقطوقة ، وأدّى هذا التغيير إلى عودة سيادة المطرب ، وتراجع الغناء الجماعى ..!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
من كتاب تفانين شعرية الصادر عن سلسلة نشر الشكمجية
مقال للشاعر والباحث / عبدالستار سليم