مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

المبدعون

الشاعر مصطفى رجب يكتب: هذا الشاعر الرائع الرقيق.... ابن الحمارة !!

2025-04-12 10:02:55 - 
الشاعر مصطفى رجب يكتب: هذا الشاعر الرائع الرقيق....  ابن الحمارة !!
الشاعر الدكتور مصطفي رجب
منبر

نحن اليوم ضيوف على مجلس شاعر عجيب الشأن، فهو شاعر مُجيد فى شعره غاية الإجادة، وهو موسيقيٌّ ملحِّنٌ يهتم بفنه كل الاهتمام، وهو رجل دولة بلغ مرتبة الوزارة، ومع ذلك كله تغافل عنه المؤرخون واضطربوا فى شأنه فلم يذكروا لنا عنه إلا نتفاً يسيرة، إلا أنهم اتفقوا على شيئٍ واحد هو هذا الاسم الغريب العجيب الذى يذكرونه به... (ابن الحمارة)!!
ترجم له ابن سعيد المغربى فى كتاب (المُغرب فى حلى المغرب) فذكر أنه كان تلميذاً لفيلسوف الأندلس الشهير ابن باجه وأن اسمه (أبو عامر محمد بن الحمارة الغرناطى،ويروى له رثاء فى أستاذه ابن باجة الفيلسوف لما مات، فقد وقف ابن الحمارة على قبره راثياً بقوله:
يا صاحب القبر القريب ودونه.................هم تبيت له الكواكب تسهر

قم- إن أطقت- وهات عن صور الردى....خبراً، فقد عانيت كيف تصور

واخبر عن الملكوت كيف رأيته...... إن الغريب عن الغرايب يخبر

وفى تحقيقه لكتاب ابن سعيد المغربى نقل الدكتور شوقى ضيف فى ترجمة ابن الحمارة أن الضبى ترجم له فى البغية وقال عنه: شاعر مجيد خبيث الهجاء ذكره الفتح فى كتاب "المطمح" واستدرك الدكتور ضيف على هذا النقل أن كتاب المطمح المطبوع لم ترد فيه ترجمة لابن الحمارة.
وقد ترجم لابن الحمارة كذلك المقَّرى فى "نفح الطيب" نقلاً عن ابن سعيد إلا أنه دعاه أبا الحسين علياً بن الحمارة- كما يقول د. ضيف، وذكره ابن دحية فى "المطرب" ودعاه الوزير أبا عامر بن الحمارة، وذكره الصفدى فى الوافى بالوفيات ودعاه أبا بكر بن الحمارة.
وخلاصة هذه النقول والتراجم أننا أمام شاعر لا خلاف على إجادته الشعر ولكن الخلاف فى اسمه وكنيته فبعضهم أخفى اسمه واكتفى بكنيته وجعلها (أبا عامر) وبعضهم صرح باسم له هو (على) وجعل كنيته (أبا الحسين)، وأحدهم لقبه بالوزير، ولكن أحداً لم يذكر لنا سنة مولده ولا سنة وفاته. إلا أن ابن سعيد فى المغرب نسبه إلى غرناطة فقال (أبو عامر محمد بن الحمارة الغرناطى) وذكر أنه كان يعمد للشَّعْراء (بفتح الشين المشددة وسكون العين: بمعنى الروضة ذات الشجر الكثير) فيقطع العود من الشجرة بيده فيسويه ويصنع منه عوداً للغناء، وكان ينظم الشعر، ويلحنه،ويغنيه، فنحن إذا أقام شاعر وملحن موسيقى هاو يحب فنه ويخلص له، هذه أول ناحية نلمسها فى شخصيته، والناحية الثانية أنه إنسان ودود يحب الناس ويحبونه، ونستنتج ذلك من نوعين من شعره: أولهما شعره فى رثاء أستاذه الفيلسوف ابن باجة وقد ذكرناه سابقاً، وثانيهما شعره فى رثاء زوجته حين ماتت فرثاها قائلاً:
ولما أن حللت الترب قلنا ............. لقد ضلت مواقعَها النجومُ

ألا يا زهرة ذبلت سريعاً ........................أضنَّ المزن؟ أم  ركد النسيم ؟

فالرثاء دليل الوفاء، والوفاء مقرون بالتواد والتحاب بين الناس، والنوع الثانى من شعره الذى نستنتج منه أنه كان ودوداً محباً محبوباً بين الناس شعره فى الإخوانيات وما يرتبط بها من مناسبات، فمن ذلك ما روى من أن امرأة مشهورة بجمالها أهدت إليه مسكاً فقال:
أتانا فتيت المسك يعبق عرفه............... ويثنى على ذاك الندى والتكرم

فأشعرنى ريا حبيب أعيره................... على رقبة لحظ المشوق المتيم

فو الله لولا أن تقول لى المنى............... وراءك لا تقدم على غير مقدم

لحدثت نفسى عند ذلك أننى.............. أشم الذى ما بين عينيك والفم

 
وأهدت إليه أخرى تفاحة فقال:
 بعثت إلى كخدها تفاحة      ....         وكطعم ريقتها رحيقاً سلسلاً                    
فصرفت وجهى عنهما ولقد أرى.............مترشفاً عذب الجنى ومقبلاً

كى لا يغار على الحبيب حبيبه........ فيقول بات بغيرنا متعللا

 
شعره ورقته:
وإذا كان شعراء الأندلس معروفين برقة أشعارهم،وخفة أرواحهم وتأثرهم ببيئتهم الخضراء الوارفة الظلال، الطيبة الثمار، فإن ابن الحمارة بلغ من هذه الرقة ذروتها، وتسنم من تلك الخفة أعلى مراميها،وشعره الغزلى أكبر شاهد على أن حسه الفنى كان دقيقاً رقيقاً، واقرأ  إن شئت قوله يصف حاله وغربته ويخاطب ليله الطويل:
ألا يا ليل هل لك من صباح................... وهل لأسير نجمك من سراح

ألا يا ليل طلت على حتى................ كأنك قد خلقت بلا صباح

فهل باتت فطيمة فيك تشكو............. كما أشكو اغترابى وانتزاحى

أردد زفرة المضنى كأنى............. جريح أن من ألم الجراح

يقلبنى الأسى جنباً لجنب.............. كأنى فوق أطراف الرماح

ثم يتجه بالخطاب إلى حبيبته التى أسماها فطيمة وهو هنا يكنيها بأم عمرو، فيشكو لها لهفته إلى رؤيتها،ورغبته فى لقائها، وكيف تجشم المشاق ليزورها فجاء بلاداً ينكره أهلها وينكرهم، فأقام بينهم غريباً، عاشقاً، محزوناً، محروما، فهو يعاتب حبيبته لأنها لم تسمح بلقائه ولو أرادت لفعلت فهو يقول:
دعانى الحب نحوك أم عمرو............. فطرت إليك خفاق الجناح

ولو أسطيع من طرب وشوق....... ركبت إليك أجنحة الرياح

أحبتنا رويدكم علينا................فقد جمح الهوى كل الجماح

هو القدر المتاح جرى علينا......... ومن يسطيع للقدر المتاح ؟

غريب حل داركم فأضحت......... له يهماء موحشة النواحى

تناكرت الوجوه بها عليه............. وكانت ذات عرف وانشراح

ويشتد ابن الحمارة فى عتاب حبيبته أم عمرو، فيقول إن بيدها أن تلقاه فيبثها شوقه ولهفته وحبه ولواعج غرامه، وهى إن فعلت ذلك فما زادت على أن صدقت ما كانت تزعمه من محبتها إياه، وعشقها له، وها هو ذا يشك فى كلامها، فهو مريض بحبه وهى صحيحة معافاة لا تعانى سقم الحب، وهول العشق:
ولو شئتم لما حسن انفرادى.............. بأشواقى ولا وجب اطراحى

وقلتم إنكم تجدون وجدى............. وهيهات المراض من الصحاح

أعاتبكم لأنكم بخلتم ................... وأنتم قادرون على السماح

ويبدو أن ابن الحمارة قد عبر البحر من الأندلس إلى المغرب وأقام فيه زمناً، ففى شعره قصيدة يذكر فيها (المسيلة) وهى من بلاد المغرب الأوسط، وهو فى هذه القصيدة يخاطب محبوبة يكنيها بأم طلحة تقيم فى مدينة المسيلة على ما يبدو، فيقول:
لم يدر طيف خيالك المتأوب........... أنى على جمر الأسى أتقلب

وافى يعارضه رقيبى لم يدع.......زنومى يجئ ولا سهادى ذهب

وانظر إلى روعة التصوير فى قوله يصف يقظة قوم أم طلحة وحراسها الذين يسهرون على حراستها من هذا العاشق المتربص، فيخيل إليه أن نيل النجوم أقرب إليه وأسهل عليه من أن يظفر بساعة ينام فيها هؤلاء الرقباء الحراس المزعجون:
يا أم طلحة والديار قريبة............ والنجم من غفلات قومك أقرب

هل تذكرين إذ الأعادى نزح...... والملتقى كثب ودارك مشغب

يا سرحة حرمت على وإنها........... لألذ من ماء الحياة وأعذب

ما بعد ظلك لى مقيل فاعلمى....... كلا ولا لى بعد مائك مشرب

يا صاحبى وإليك شكوى صاحب ..... عجزت محالته وضاق المذهب

امرر على هدف "المسيلة" إنه...... هدف إلى مع العشى محبب

ويبدو أنه يئس من لقاء حبيبته أم طلحة وغادر المسيلة عائداً إلى غرناطة، ففي إحدى قصائده يظهر تأثره وتحسره على أيام أم طلحة فيقول:
ألا ليت شعرى هل تعود كعهدنا...... ليال طويناهن طي المراحل

إذا ذكرتها النفس كادت من الأسى......... تسرب في أولى الدموع الهوامل

وإني وتركى أم طلحة بعدما......... تسلسل منى حبها في المفاصل

لظمآن قفر أبصر الماء حسرة....... وقد ذيد عن أطرافه بالمناصل

ولولا رجائي عطفة الدهر لم أبل.... متى نزلت بالنفس إحدى النوازل

عن النوم سل عيناً به طال عهدها....... وكان قليلاً في ليال قلائل

أبيت بمستأني الخيال ودونه  ....... طروق سهاد واعتياد بلابل

إذا ظن وكراً مقلتي طائر الكرى ....... رأى هدبها فارتاع خوف الحبائل

والأبيات الثلاثة الأخيرة بلغت الغاية في الإجادة وحسن تصوير الأرق، وما يجلبه الأرق والسهاد من ألم ومرض وحزن واكتئاب، لا ندرى أكان أكثره من الغربة أم من فراق الأحباب؟‍.

مساحة إعلانية