مساحة إعلانية
غادرنا محطة بني سويف منذ نصف ساعة ، وقد استسلم بعضهم للنوم ، ونشط آخرون ممن يتهيأون للنزول في محطة الجيزة . مازالت هواتفي صامتة أو مغلقة كعادتها في أثناء السفر ، ولكن هاتفا داخليا دعاني للنظر في أحدها فوجدت رسالة من ابن أخي الذي ينتظرني في محطة رمسيس ، فلما كلمته وعرف أنني مازلت في بني سويف ، استعبط ونصحني بأن أنزل في محطة الجيزة لأستقل مترو الأنفاق إلى بيتي القريب من محطة كوبري القبة ..وبالطبع في مثل هذه الحالات لا أملك إلا الاستسلام ، فأنا كأبي العلاء وطاها حسين رحمهما الله : " مستطيعٌ بغيره " !
عاد ذلك العجوز المناضل الذي تابع تاريخ الحروب المصرية ( من الراديو ) إلى مقعده ، وتسلم آذان جليسه في المقعد ، وسعدت جدا حين تبين من حوارهما أنه مازال يعدد أصناف النساء اللواتي يعرفهن ، وكنت شغوفا بأن أسمع منه الصنف الثالث من أصنافهن ، الذي توقف عنده حين هجم الكمسارية والمفتشون ومساعدوهم ، قال الحكيم : إن الصنف الثالث من الحريم يمثل نوعا غريبا لا يحسن الرغي المتواصل ، ولا يؤثر الصمت الخامل ، ولكنه يضم فئة من الحريم الكسولات اللواتي لا يعنيهن أن يأكل أزواجهن أو يصوموا ، ولا يشغلهن أن يلبس أطفالهن أغلى الثباب أو أرخصها ، ولا يهمهن زيارات الأقارب أو انقطاعها ، بل كل ما يشغلهن عبادة تلك الشاشات ، ومتابعة ما تعرضه من أفلام ومسلسلات ، فإذا طلب منهن أحد طعاما أو شرابا تأففن أشد التأفف ـ وأشرن إلى المطبخ ليأكل أو يشرب ما يجده من طعام أو شراب ، فإن لم يجد شيئا فلا حرج عليه في أن يلجأ لمطعم قريب فيأكل ما أحب أن يأكل ، ويشرب ما شاء أن يشرب .
كان الرجل يحكي عن هذا الصنف من النساء وبين حروفه مرارة تلوح حينا وتتوارى حينا ، لكنه تشير إلى ما يتغنى به بعض المتصوفة حين يقولون " من ذاق عرف " !! وكأن المسكين ذاق أشد الذوق ، حتى عرف أدق معرفة .
كنت أستمع لحديثه هذا الذي استفاض فيه بغير حماس ، وكدت أطلب منه أن يعود إلى ذكرياته مع الحروب التي عايشها ( مع الراديو) فقد كانت أكثر جاذبية وتشويقا ..لكنني خجلت أن أطلب منه ذلك على غير معرفة بيننا .. فانصرفت عنه لأتابع السيدة الفضلى التي كانت ما تزال تفتح كيسا بعد كيس من تلك الأكياس التي اشتراها لها بعلها من محطة بني سويف ، فتلقف ما في كل كيس في جوفها كأنها لم تذق طعاما من شهور ، وهي التي لم يتوقف شدقاها عن الدوران منذ خمس ساعات أو أكثر .. في داخل نفسي : كنت أحسدها لهذه القدرة الغريبة على الهضم والقضم المتواصلين بشراسة وإصرار ..وكم كنت أتمنى لو كان معي مرافق عصري يحسن التعرف إلى مسميات تلك المهضومات والمقضومات والمقرقشات التي يجيئها بها بعلها في كل محطة ..
و
... بدأت بشائر محافظة الجيزة تظهر ، فقد تحرك بعض الركاب هنا وهناك يستنزلون حقائبهم الكبرى من فوق الأرفف ويتفقدونها ، أو يضعونها في طرقات العربة أو يتحركون بها نحو أبواب العربات .
بدأت أشعر بقلق شديد حين اقتربت محطة الجيزة ، فما تزال تلك السيدة تأكل بشراسة ، وترغم زوجها البريئ ذا النظارة الطبية على الأكل ، ومازالت السيدة (الخازوقة ) تضحك وهي تقص على مُحادِثاتها أو مُحادِثيها في هاتفها بطولاتها في غشيان المدارس والتنكيل بالمخالفين فيها ، ومازال العجوز المناضل الذي تابع تاريخ الحروب المصرية ( من الراديو ) يواصل تحليلاته لشخصية المرأة ، وتقسيماته المتفرعة لأنواع النساء وطبائعهن ..
بدأت أشعر بقلق شديد ..أأنزل في محطة الجيزة وأترك هذا المهرجان - الذي عشت فيها أكثر من سبع ساعات – محتدما ؟
فهو لن يتوقف إلا في محطة رمسيس بالقاهرة ، ولكنني مضطر لأن أعمل بنصيحة ابن أخي فأنزل من القطار في محطة الجيزة ، و" أتمتَّر " في مترو الأنفاق من الجيزة إلى بيتي في محطة كوبري القبة ..توفيرا للوقت الذي " يتدلع " فيه القطار بين الجيزة والقاهرة ..
ولكن السؤال الذي سيطر على ذهني ساعتئذ : كيف ستتوقف تلك السيدة الأكول عن التهام أرغفتها وهي تساعد زوجها في إنزال كل " تراثها " الكبير من تلك الحقائب الكبيرة والصغيرة والمتوسطة ؟
ساعة فكرت في هذا السؤال نظرت ناحيتها فوجدتها قد فتحت جردلا بلاستيكيا مربعا في حجم نصف كرسي القطار ، واستخرجت منه زجاجة الشويبس البرتقالي الذي كانت تتعاطاه من حين لآخر ، ورفعت تلك الزجاجة الطويلة ( ذات اللترين )
لأعلى وظلت تشرب منها حتى أفرغتها تماما .. وحين وضعتها في جردلها رأيت بجوارها ثلاثا أُخَرَ فارغات ، فلا أدري أشربتهن وحدها أم شاركها زوجها وابنها ؟ ثم ما أهمية أن تحضر معها هذا الجردل البلاستيكي الكبير لتحمل فيه تلك الزجاجات الكبار الفوارغ ؟ وهل ستغشى بهذا الجردل بيوت أقارب لها بالقاهرة هكذا فارغا ؟ أم أن لها بيتا يؤويها ؟! وما عسى أن يكون في ذلك البيت من مخلفات سفرياتها السابقة ؟
وفيما أنا مستغرق في تساؤلاتي حول تلكم السيدة الفضلى ، فوجئت بذلك العجوز المناضل الذي تابع تاريخ الحروب المصرية ( من الراديو ) يضحك ضحكا متواصلا عنيفا وهو يقص على ضحيته / جاره بعض مغامراته أيام كان شابا فتيًّا ممن يغامرون ، وكيف تلقى صفعة شديدة ما تزال – كما قال – ساخنة على وجهه ، من سيدة فضلى عاكسها في باصٍ قاهري ، أو لعله تحرش بها ، دمعت لها عيناه وانغلقتا ثم انفتحتا ليكتشف أن تلك السيدة التي وقف خلفها في الباص القاهري لم تكن إلا شابا من أولئك " الخنافس " الذين كانوا يطيلون شعورهم ويغذونها بما تغذي به النسوة شعورهن من دهانات ..!
ويحكي الرجل الفاضل كيف نزل فورا من ذلك الباص مأزوما ، مذموما، مقهورا ، مكسوفا فأوى إلى مسجد قريب على الطريق فاغتسل واستغفر وصلى ركعتين ثم نام ، فرأي فيما يرى النائم أن امرأة أبيه الثانية قد جاءته في المنام بمركوب قديم ومازالت تضربه به بين فواصل من الصفع واللكم والبصق والقرص ، وهو يصرخ حتى أيقظ بصراخه من ينامون جنبه ، ليكتشف أنه ينام في بيته بجوار أسرته ، وليس في مسجد ، ثم تأسى الرجل حزينا على قفل المساجد حاليا أمام أبناء السبيل من المسافرين .
اهتز مقعدي فجأة فظننت أن السيدة الفضلى الجالسة خلفي تهم بالنزول مثلي في محطة الجيزة ، ولكن ظني لم يكن صحيحا ، فقد كانت تحاول فقط أن تضع ساقا على ساق لتستكمل قصتها مع ذلك المعلم " غير المحترم " - كما وصفته – الذي وصف لها عملها التفقدي الضخم الذي تفاجئ به المدارس بأنه " هجص " لا طائل من ورائه ، لأنه يهتم بنظافة دورات المياه ، ولا يهتم بتعليم التلاميذ كيف يكتبون الهمزة التي في وسط الكلمة ..
سعدت جدا بهذا القسط من كلامها فأنا ممن توجعهم كتابة الهمزة حين أصحح "كراريس" تلاميذي ، ولكن قطع عني متابعتها تلك الصرخة العنترية التي هزتني هزا ولم أتبين مصدرها بوضوح ...
......
وصل القطار إلى محطة الجيزة وتوقف عليها ، قمت من مقعدي لأتوجه للنزول ، نظرت للسيدة الفضلى ..كانت مازالت تأكل بشراسة ، ونظرت للتي خلفي ، كانت ماتزال تحكي بطولاتها مع ضحاياها ، ونظرت لبطل الحروب ( الإذاعية) ، كان ما يزال يحلل نوعيات النساء اللواتي أحبهن أو كرههن ، نظرت لبعل السيدة الأكول فلم أتبن ملامح عينيه من شدة كثافة نظارته .. نزلت من القطار وفي عقلي أسئلة كثيرة أهمها : كيف يمكن لسيدة أن تأكل وتشرب وتقزقز لمدة ثماني ساعات متواصلات بلا أي فاصل ؟ وكيف يمكن لموجهة " تربوية " أن تحكي نحو ذلك الوقت عن بطولاتها مع ضحاياها من المدارس التي تتابعها ؟
توجهت إلى محطة مترو الأنفاق كما أرشدني المرشدون ، وعندما وقفت أمام شباك التذاكر ، ومددت للرجل ورقة بخمسة جنيهات وطلبت تذكرة إلى محطة كوبري القبة ، نظر إليَّ الرجل نظرة مريبة ، ودقق في ملامحي كما يدقق المحققون في مستندات مشكوك فيها ، ثم ازورت عيناه ، ودقق في النظر إلي ثم سألني بأبوية حانية : حضرتك وصلت ال 65 سنة ؟ قلت له متوجسا : نعم أنا فوق الخامسة والستين فتبسم في حنو أبوي بالغ ، وكرم حكومي سابغ ، وأعاد لي جنيها حديديا – مع التذكرة – وقال : من حق حضرتك ( نصف تذكرة) مادمت فوق الخامسة والستين !! قلت له : من قال هذا ؟ قال : هذا قرار الحكومة .
كان اسم ( الحكومة ) كافيا ، مع قروي مثلي ، لاصطكاك الركبتين والفكين واختلاج العينين ، لكن هذا كله لم يمنع سعادتي بهذا الجنيه الحديدي الذي أعادته الحكومة لي مشكورة .
لم يكن أمام الشباك أحد غيري ، فوجدتها فرصة للحوار مع الحكومة ممثلة في ابنها ذلك الشبَّاكي الأصيل ، فسألته ببراءة قروي موغل في التشكك والحذر : حضرتك تعرفها ؟ هز رأسه مستغربا وسألني : أعرف من ؟ قلت : الحكومة فتبسم ضاحكا وقال : نعم أعرفها ..أتريد منها شيئا ؟ قلت : لنفسي : لا ، لكن أرجوك أبلغها بأن أمام القصر الجمهوري بالقبة [ الذي أسكن بجواره ] عدد كبير من الرجال والنساء والأطفال ، يبيتون تحت الكباري العلوية ويعانون في الشتاء القارس من لطم البرد ، فضلا عن الجوع ، والخوف من الكلاب الضالة ، ومن البشر المجرمين . أوحتْ لي هزة رأسه بأن الرجل ظنني من المجانين ! وقد أشار لي إلى الرصيف بما معناه : اجرِ.. يا أستاذ ، المترو وصل .
لحقت بالمترو ، وما كدت أقف وسط زحامه حتى انبرى فتى مهذب يجلس بجوار سيدتين لعل إحداهما أمه ، فأخذ بيدي وأجلسني أمامه مشكورا فشكرته ودعوت له وبدأت أتأمل من هم حولي...
ويا ليتني ما نظرت ...!!!