مساحة إعلانية
كان أستاذا ورئيسا لقسم (كنت قديما وأنا طالب ) أبغضه كل البغض في كليتنا اسمه قسم " علم النفس التعليمي "
ولست أدري على وجه اليقين ما سبب كراهيتي لهذا القسم !!
أغلب الظن أن دراسته كانت تتطلب شيئا من المعرفة بالرياضيات وجدول الضرب والدفتر الطويل الضخم الذي يسمونه الجداول الرياضية ، وكلمات غامضة مريبة تفرقع على ألسنتهم لا نفهم لها معنى ولا دلالة ونستنكرها كل الاستنكار مثل " جتا " و "ظتا "
وكما قلت في كتابات سابقة ، كانت علاقتي بأي مقرر تربوي تبدأ ( وقد تنتهي ) مع أول محاضرة لمن يحاضرنا ، فقد أحببت محاضرات تاريخ التربية ، و تاريخ التعليم ، وفلسفة التربية ومشكلات المجتمع ، والصحة النفسية ، وطرائق التدريس .
أما مقررات " المناهج " و " علم النفس التعليمي " وما كانوا يسمونه " الوسائل التعليمية " وما شابهها فقد كنت أخاف منها خوفا شديدا ، و كنت حينذاك أرى – حين أدقق - في وجه ( بعض) من يتخصص فيها لمحات من ملامح جولدا مائير وموشيه دايان .
كان هذا الأستاذ رئيسا لقسم علم النفس التربوي ، وكنا نسمع من معيديه أنه سِكِّير ، ولا تخلو جيوبه من زجاجات خمور .
لكن هذا لم يكن يهمنا كثيرا ، بقدر ما كانت تهمنا كراهيته " الثأرية !! " لقسمنا الوليد ، وتخصصنا الجديد : اللغة العربية . الذي لم يكن لكلية التربية به عهدٌ من قبل .
حضرتُ المحاضرة الأولى لمولانا هذا ، وكنت أجلس على مقعد ( من المقاعد ذوات الحوافّ التي يُكتَب عليها ) في الصف الأول من الفصل الكبير ، وكان أستاذنا هذا يروح ويجيئ من أقصى اليمين لأقصى اليسار بسرعة عجيبة ، ويتكلم وهو يسير هذا السير السريع المُقْلق ، ومن حين لآخر يمد يده فيخبط بها خبطة شديدة على أحد كراسي الصف الأول هذا الذي أجلس فيه ، يخبط الخبطة المفاجئة وهو ينظر في عيني الفتى أو الفتاة الجالس على ذلك المقعد " المخبوط " عليه ، ولأنه قصير القامة جدا ، تكون نظرته موازية تماما لعيني الجالس المخبوطة تختته !
وأغلب الظن أن وضوء جالسي الصف الأول كان ينتقض مع كل محاضرة علم نفس تعليمي !!
وكما قلت في كتابات سابقة ، كانت علاقتي بأي مقرر تربوي تبدأ ( وقد تنتهي ) مع أول محاضرة لمن يحاضرنا ، وهذا ما حدث مع هذا الرجل :
ففي تلك المحاضرة " التاريخية " [ = الوحيدة !! ] التي حضرتها ، كدت أموت فعلا ، وأرجو ألا تظنوني مبالغا ، فأنا بطبيعتي أحب أن أضحك معظم الوقت ، وهذا الرجل : بمنظره ، وزيه ، وكلامه ، ونظراته ، وبنيته الجسمية الضحلة جدا : مثير للضحك جدا . وفي الوقت نفسه ، سمعنا من السابقين لنا في الكلية أن هذا الرجل إذا غضب على أحد الطلاب وأخذ اسمه ، فلن ينجح هذا المغضوب عليه حتى لو كتب الكتاب كله في كراسة الإجابة !
قال الرجل في تلك المحاضرة " التاريخية " الوحيدة التي حضرتها :
" .... أنا كنت مبعوث للحصول على الدكتوراة في أمريكا ، وهناك لقيت المشرف المخصص للإشراف عليَّ صهيوني " ابن ... كلب !! " فلعنت أبوه وقطعت البعثة وجيت كملت رسالتي هنا في عين شمس بإشراف أستاذي أحمد زكي صالح ... "
بذلت مجهودا عنيفا لكتمان الضحك لأن هذه أول [ وآخر] مرة أسمع فيها سب دين من أستاذ كبير . وظللت في عقلي الباطن أستحضر صور مشايخنا الأزهريين أو الدراعمة الأكابر الذين كانوا يدرسون لنا التفسير والحديث والفقه وأصول الفقه وطرائق التدريس ، ورقة أساليبهم ، ونظافة كلماتهم ، ومداعباتهم الراقية معنا عند اللزوم ...
ثم أضاف الرجل في تلك المحاضرة " التاريخية " الوحيدة التي حضرتها :
" .... وبما أنكم أنتم همج ، واللي خلّفوكم همج ، فأنا هاتحدى قسمكم( يقصد تخصص اللغة العربية) بمسألة في الامتحان وأتحدى أي حد في قسمكم يقدر يحلها ..." !!
ومع اقتراب شهر مايو ، سألت جاري الاسماعيلاوي المتخصص في الرياضيات ( حسن مخلوف ) عما سيسألنا عنه ذلك الدكتور ، فقال : " ستكون مسألة تحتاج تجيب فيها معامل الارتباط "
- لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم !!
- دي مسألة سهلة يا مصطفى
- و معامل الارتباط ده لامؤاخذة يا أبو علي يجيبوه منين ؟ وازاي ؟ وهل لازم له أكون حافظ جدول الضرب ؟
- ( أصدر حسن صوتا لا تحسن كتابته حين عرف أنني لا أحفظ جدول الضرب .. )
وانتهى الحوار بيني وبين حسن – بعد عدة لعنات متبادلة – بأنه سيشرح لي ذلك الهباب [معامل الارتباط ] ليلة امتحان ذلك المقرر السخيف .
........
......
وتصادف ليلة امتحان هذا المقرر أن كان علينا ( أنا وسعد عبد الرحمن وطارق الناظر وبقية الأدباء) أن نلتقي بمخرج كبير قادم من القاهرة ليشرح لنا فيلما أجنبيا ضمن مشروع " نادي السينما "
حاولت التنصل لأذاكر المادة التي سأمتحنها صباحا ، لكن زملاء نادي السينما ـ ألحوا وشددوا وسحبوني سحبا إلى السينما ...
وعدت منتصف الليل وكان مخلوف قد نااااام !!
في الصباح ، أفطرت وذهبت لحسن مخلوف ، وركزت تركيزا شديدا وهو يشرح لي معامل الارتباط هذا ، وقال لي : تغلب على قلة حفظك لجدول الضرب بضرب الأرقام في بعضها بالهامش ، وأما معادلة معامل الارتباط هذه التي لا قبل لك بها فاكتبها على يدك ، وكتبها لي هو على يدي !!
بدأ الامتحان ، فبدأت بالمسألة لأنها سؤال مستقل قائم بذاته ، تصببت عرقا ، واستغرقت ساعة ونصف الساعة بالتمام والكمال ، وحوالي نصف كراسة الامتحان في ضرب وقسمة أرقام على أرقام !! ودنياااااااااا !!!
حتى وصلت إلى استخراج معامل الارتباط . وكان 9877 وخمسة من عشرة !!!
وأكملت الامتحان بذكر العبارة التي حفظتها – ومازلت – ولم أفهم لها معنى قط من تكرار أستاذ المقرر لها وهي تقول ( الذكاء : قدرة معرفية فطرية عامة !!)
كانت تذكرني ببيت الشعر الواضح الشهير :
وتجعلقَ الخرطافُ في حَشَف الَّلمى .... بالباسقاءِ ، فخرَّ كالهعبعبلِ !!
.......
كنت مبسوطا " منشكحا " مفتونا ، لأنني ( وأنا الأول على شعبة اللغة العربية التي يكرهها ويعاديها ذلكم الدكتور ) جئت بالذئب من ذيله ، وحللت مسألة ريااااااضية !!
وما أكاد أقول لمخلوف وزملائه إنني حللت المسألة ووصلت إلى استخراج معامل الارتباط . وكان 9877 وخمسة من عشرة !!! حتى انفجروا ضاحكين بأصوات جنونية
وقال لي مخلوف في أذني :
- ده معامل الارتباط ده – يا متخلف ! – لا يمكن أن يصل إلى واحد صحيح بل يجب أن يكون كسرا
قلت له بابتسامة أبوية حانية : إلهي يكسر "حُقَّك" أنت والدكتور بتاعكم !!
العجيب أنني حصلت آخر العام في هذا المقرر على تقدير " جيد جدا " !! كيف ؟ لا أدري !!