مساحة إعلانية
بداية أنا لا أقصد بالشعراء المحدثين شعراءَ اليوم.. ولكني أقصد شعراء القرنين الماضيين في مصر والشام والعراق وتونس
إن شعراء العصر الحديث أرق أفئدة وأعمق حالمية وأوسع أفقاً وألين قلوباً وأعرض ثقافة من شعراء العصر الجاهلي وهذا ما جعلهم أفضل شاعرية من شعراء العصر الجاهلي ولا ريب أو شك في أن شعراء العصر الجاهلي امتازوا بجزالة الكلمة وقوة اللفظ ونقاء اللسان وعدم اللحن وهذا كله جيد لكن شعراء العصر الحديث كانت أغراضهم أسمى وأرفع من قضايا العصر الجاهلي التي انحصرت في البكاء على الأطلال ووصف الناقة ورثاء ميت ومدح رئيس قبيلة وهجاء خصم وتأليب جماعة على جماعة.. ثم ما هي الفائدة والعائد في أنني أستمع لقصيدة كل مقوماتها الشعرية أنها تحوي عدداً ضخماً من غريب الألفاظ ووحشي الكلام دون أن تلمس أغوار النفس وأعماق المواجيد ؟!
إذا كانت قصيدة العصر الجاهلي تحمل ذلك فلا بأس بها وتصبح أقوى من قصائد الشعراء المحدثين لكن إن يشيد بها أحد على أنها تحوي الجزالة والتقعقر في الكلام فقط فإنه قد ذمها من حيث أراد مدحها فكم من قصائد لمحمود سامي البارودي بها أبيات أجزل ألفاظاً من أبيات عنترة..
الشعراء المحدثون امتازوا بامتياز آخر.. الشعراء المحدثون كانت بعض قضاياهم وطنية وقومية ينشدون شعرهم دفاعاً عن بلادهم وأوطانهم.. قضاياهم رفعة أمة وصد هجوم ورد عدوان ومقاومة احتلال وهذا أثر في شعرهم وجعله أعمق وأبعد وأجزل وأرق وألين وأطرب من شعراء العصر الجاهلي
الشاعرية إحساس ومشاعر ، والكلمة هي مطية الشعور والأحاسيس لقلب وعقل المتلقي.. وقد كان شعراء العصر الحديث أبرع في هذا من شعراء العصر الجاهلي حيث أن أغلب الشعراء المحدثين كانوا على ثقافة عالية واطلاع على جميع الفنون والآداب حتى الموسيقى وعلى درجات علمية عالية تحت رعاية تشريعات وقوانين تنظم حياتهم الإجتماعية خلاف العصر الجاهلي حيث أن شعراءه السواد الأعظم منهم أميون بدو رعاة إبل وغنم لا يقرأون ولا يكتبون ولا يعرفون عن الدنيا سوى البُرد والخيمة والناقة وأشطان البئر والفرس والروم والأساطير التي تروى عنهم وهذا ليس قدحاً فيهم وإنما هي ظروف عيش ونمط حياة فرض عليهم.
أما في شعر الغزل فقد كان الشعراء المحدثون يتغزلون في أميرات فاتنات راقيات تعزف على البيانو وتشدو على الحان العود والكمان وتلبس أحدث صيحات الموضة العالمية وتضع أفخم أنواع العطور الباريسية وتجلس في شرفة قصرها المنيف ترسم بورتريهات وتقطف كل صباح من فازاتها الورود اليانعات ، ثم إن الشاعر العاشق في هذه اللحظة يكون قد كتب قصيدته تلك في محبوبته الأميرة الفاتنة التي بدورها تتحدث ست لغات وهو جالس على مكتبه الأنيق يحتسي فنجان قهوته البرازيلية مشعلاً سيجاره الكوبي الملفوف على سيقان العذارى مرتدياً معطفه وأمامه من بعيد مدفأته التي تخرج عبر شذى وأريج أدخنتها روائح الأخشاب العطرية وخلفه مكتبة ضخمة تضم أمهات الكتب العالمية فكان لا يجلس على كرسي في ذلك الوقت وإنما حقيقةً هو يجلس على ثروة لفظية ضخمة ومعانٍ ومشاعر تشربها واستنبطها من مشاعر وأحاسيس آلاف الكتاب والشعراء العرب والعالميين حتى وإن كان حبه كاذباً فإنه يستطيع أن يأتي بمعانٍ تذوب لها قلوب العاشقين وحاله في هذه اللحظة قول القائل (( أعذب الشعر أكذبه ))
هناك فاعل آخر.. الشعراء المحدثون نفووا في جزر بعيدة ومناطق طبيعتها خلابة في جنان حاضرة كجزيرة سرنديب وإسبانيا وشاهدوا العجائب و الغرائب والطرائف والرقائق واللطائف فكانت صورهم الشعرية أعذب وأجمل وأرق وأروع وأفضل من الكثير من مثيلاتها في العصر الجاهلي التي لا تحكي إلا عن البعر وأشطان البئر وعرف الحصان المنجرد والضبعة أم عامر والشرح يطول وتنقضي الأسابيع والشهور ولا تنقضي أسباب أفضلية الشعر الحديث عن الشعر الجاهلي وللحديث بقية بمشيئة الله تعالى في مناشير أخرى
وأخيراً وليس آخرا فإنني عندما أتحدث عن مثل هذه الأمور أجد الصد والرد من أولئك الذين يعبدون التراث ويقدسون كل ما هو عتيق ليس لشئ سوى أنه قديم ويمكنك ملاحظة ذلك في اختبار عملي وهو أنك تجد جميع الناس مثلاً يتعاطفون مع فيلم الناصر صلاح الدين الأيوبي القديم للراحل القدير أحمد مظهر رغم أن الفيلم قد سقط في أخطاء تاريخية وأخطاء على مستوى التمثيل والإخراج وقد أُخرجت أفلام ومسلسلات أفضل منه إلا أنك قلما تجد من يتقبل الفكرة من الأساس بل تجده يدافع بكل قوة عن الفيلم القديم لا لشيء سوى إنه قديم دون أن يشاهد الأعمال الأخرى بل أنه لم يسمع بها من الأساس.. من مثل هذا تجدهم هم الذين يدافعون عن الشعر الجاهلي باستماته وهم لم يقرأوا لا الحديث ولا حتى القديم