مساحة إعلانية
في زاوية عتيقة من سوق الخردة، كان يقف "يوسف" متأملاً صندوقًا خشبيًّا صغيرًا مغطى بطبقة من الغبار والنسيان. لا شيء فيه يوحي بأنه يستحق خمسة جنيهات، سوى ذلك النقش الدقيق على غطائه: فراشة تطير فوق نوتة موسيقية, اشترى يوسف الصّندوق بثمن أكثر مما يستحق مع ابتسامة غامضة من بائع الخُردة, كانت تلك الابتسامة إشارة لبعض كلمات : يا تُرى ما الذي دفعه لشراء ذلك الصّندوق القديم؟
في الليل، جلس يوسف في غرفته الفقيرة, وحيدًا يلتحف سُترة صوفيّة ربّما طاردت بعض صقيع ليلة شتويّة, وضع الصندوق أمامه، بدأ احتكاك أصابعه ربّما هي الأخرى محاولة لبعض الدّفء, نفخ الغبار عن الصّندوق كما لو أنه يُزيل طبقات من الزمان, فتح الغطاء، وإذا به يسمع نغمة واحدة قصيرة وحزينة, هدأت روحه قليلًا لسماع تلك النّغمات, ليلة بعد أخرى, وكلما فتح الصندوق في ليلة جديدة، سمع نغمة أخرى. نغمة لا تشبه سابقتها, مرةً حزينة، وأخرى فرِحة، وأحيانًا غاضبة أو خائفة.
بدا له أن الصندوق لا يُخرج موسيقى بل ذكريات, فكل نغمة كان لها وقع مغاير لما قبلها, وحدته, غُربته في وطن بعيد, قصّة حُب لم تكتمل, مرت أسابيع ويوسف يوثق تلك النغمات كل ليلة , لم يكن يعرف كيف، لكنه بدأ يتغيّر. صار يستمع للناس أكثر. يشعر بآلامهم في النظرات قبل الكلمات, كأن الصندوق فتح قلبه، لا أذنه فقط
وذات ليلة فتح الصندوق ولم تصدر منه أي نغمة, انكسر شيء ما داخله. جلس ينتظر لساعات, لا صوت، لا ذكرى, همّ بإغلاقه، لكنه لمح شيئًا داخل الغطاء من الداخل, سطر محفور بدقة لم يره من قبل (آخر نغمة لا تسمعها... بل تكتبها)
وكأنّما هي رسالة من مجهول, للتّو أحضر قلمه، وبدأ يكتب:
"كانت تُحب الربيع، كانت تهوى الفراشات, كانت تُغازل الطير بأغنيات حالمة
ثم أغلق الصندوق, ومنذ ذلك التّاريخ لم يعُد الصندوق يصدر أصواتًا, لأنه أصبح يصدر قصصًا.