مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

د. أيمن الداكر يكتب : هوامش على دفتر المحروسة (23) الحج إلى أبيدوس

2024-06-29 15:34:39 -  تحديث:  2024-06-29 16:33:26 - 
د. أيمن الداكر يكتب : هوامش على دفتر المحروسة (23) الحج إلى أبيدوس
د. أيمن الداكر
منبر

في أيام معدودات، وتحديدًا في اليوم الثامن لأول شهور الفيضان، يشد المصري القديم الرحال إلى مدينة (أبدجو)، مرتديًا ملابس قصيرة وبيضاء والتي ترمز إلى الطهارة والنقاء، كاشفًا عن كتفه الأيمن وساترًا لكتفه الأيسر حيث موضع القلب، فالإله يحب أن يرى كل القلوب بيضاء. تلك هي رحلة الحج في مصر القديمة والتي تمتد حتى اليوم السادس والعشرين من الشهر ذاته، يقوم فيها الحاج بالطواف حول قبر أوزوريس وتقديم الهدايا من الطعام والشراب وحرق البخور، يشارك في العروض والمواكب الجنائزية الرمزية التي تعيد تمثيل قصة موت أوزوريس وبعثه من جديد، ينحر قربانه من الأنعام عند المعبد ويحفر اسمه على لوحة حجرية؛ ليخلّد اسمه بين العابرين في آمان إلى الحياة الآخرة وينعم بالسعادة فيها، وتكون الليلة الكبيرة في تلك الرحلة المقدسة هي الليلة الثانية والعشرون.
ومدينة (أبدجو) هي مدينة (أبيدوس) المسماة بالعرابة المدفونة في مدينة البلينا التابعة لمحافظة سوهاج، وقد اكتسبت أهميتها منذ عهد الدولة المصرية القديمة وذلك لوجود معبد (خنتي أمنتي) إله الغرب وعالم الموتى، ولكونها مقر عبادة الإله (أوزوريس) إله البعث والحساب والحياة الآخرة ورئيس محكمة الموتى، ويعتقد المصريون القدماء أن روح أوزوريس تحيا في أرض بكر بالقرب من أبيدوس، فهي بيت (الكا) أي الجسد وبيت (البا) أي الروح، فهي مقر الجسد والروح (كا با)، ومنها جاءت كلمة (كعبة) التي يحج إليها المسلمون كل عام، ومنها جاءت كلمة (cup) باللغة الإنجليزية والتي تعني مكعب وهو وصف للكعبة المشرفة. (لويس عوض في كتاب (مقدمة في فقه اللغة العربية).
وكلمة (حج) بالهيروغليفية تعني الضياء والنور، وقد عرفها عنهم اليهود ومنها انتقلت إلى الجزيرة العربية، فكلمة (حجاز) في المعجم الوسيط معناها (بلاد بين نجد وتهامة)، لكن في اللغة المصرية القديمة هي كلمة من مقطعين (حج) بمعنى الضياء والنور، و(أز) ويضاف إليها مخصص (رمز الساقين) بمعنى يمشي أو يسير أو يسعى، فتكون كلمة (حجاز) بمعنى السعي إلى الضياء والنور وهو الأقرب لما يحدث في الحج.
وقد حرص المصريون القدماء على توثيق رحلة الحج على جدران مقابرهم، فنجد ذلك في لوحة في مقبرة (سي نفر)، ولوحة مقبرة (ايخر نفرت) في متحف برلين، والتي تبين حرص كل من الملك سنوسرت الثالث والملك أمنمحات الثاني على المشاركة في الاحتفالات السنوية وأعياد أوزير في أبيدوس، ونجد ذلك في أكثر من (2000) لوحة أخرى في مقابر بني حسن. وقد توارث المصريون هذه العادات عن أجدادهم القدماء، فنجد توثيق لرحلة الحج إلى مكة على جدران البيوت خاصة في القرى والنجوع، ويتمثل ذلك في لوحات بارعة للطواف حول الكعبة، ورسومات الطائرة أو الباخرة التي يخرج دخانها محملًا بالآيات القرآنية، والناقة التي تحمل الهودج، وتوثيق تاريخ تلك الرحلة المقدسة واسم الحاج على واجهة البيت في جملة ( قد حج بيت الله الحرام، وزار قبر النبي عليه الصلاة والسلام، الحاج فلان ابن فلان).
ونظرًا لقدسية مدينة أبيدوس، كانت أقصى أمنيات المصري القديم أن يُدْفَن فيها، ليضمن لنفسه مكانًا مميزًا بين الموتى، وقد عُثر في جبّانتها القديمة على مقابر لحكّام تلك المناطق في عهد ما قبل الأسرات، ومقابر لملوك مصر القديمة حتى الأسرة الثالثة، ومن لم يدفن هناك حرص على تشييد تمثال أو لوحة باسمه، وقد ازدادت أهميتها كمدينة مقدسة في عهد الدولة الوسطى، وفي سنة 2000 م أُكتشفت في أبيدوس أقدم مراكب مصرية مدفونة في الرمال، يرجع تاريخها إلى 3000 سنة قبل الميلاد، ويبلغ طولها ما بين 20 إلى 30 م وعددها أربعة عشر مركب. 
وكانت مراسم الدفن تبدأ بعد الأربعين في رحلة نيلية إلى أبيدوس، يوضع الميت بعد تحنيطه في مركب، ويتبعه الأهل والأصدقاء والأقرباء في مركب أخرى، وعند وصولهم إلى البر يرددون: 
(السلام عليك أيها الإله العظيم، يا سيد تاور العظيم في أبيدوس، لقد أتيت إليك فأنت صاحب العطف، استمع لندائي ولب ما أقوله، فاني أنا واحد من عابديك)
ثم يقوم الكاهن بحرق البخور وتقديم القرابين أمام الجثمان ويمارس طقوس فتح الفم وصب الماء مع نحيب وولولة الزوجة والأهل. 
لكن مع زيادة أعداد الموتى وارتفاع تكاليف الحج والدفن في أبيدوس، اقتصرت الأمنيات على إقامة شاهد يحمل اسم الميت هناك، وقد شيد الملك أحمس مقبرة رمزية لجدته تتي شيري في أبيدوس.

مساحة إعلانية