مساحة إعلانية
(من تلك الأيام ) من أدب السيرة الذاتية
أظن التعبير الذي أقدم به هو جزء من جملة مثلية لمثل شعبي مازلت أتحرى رواياته، وأيها الأدق، ربما كان المثل الشعبي يقول:( الْفُرْقَهْ بِالْخَاطِرْ .. و اللُّقَا نَصِيبْ ). أي أننا نستطيع أن نقرر المفارقة متى نشاء .. لكن من يقرر اللقاء هو القدر و النصيب، والقدر والنصيب والمكتوب أسماء لحجر زاوية المعتقد الشعبي المصري طوال تاريخه وعلى إختلاف أديانه...
و يرن في أذني هذا التعبير الشعبي البليغ؛ كلما مر بذهني اسم .. سعد عبد الرحمن .. عبد الله السيد شرف .. فوزي خضر .. صلاح اللقاني .. عصام الغازي .. محمد جبريل .. محسن الخياط ... فلقاء كل منهم بالنسبة لي .. كان نصيبا .. ما سعيت إليه.. ولا سعوا هم إليه.
كنت في بداية سبعينات القرن العشرين أشرف على الصفحة الأدبية بمجلة أسيوط المحلية الشهيرة ( صوت الجماهير ) التي كان يصدرها الاتحاد الاشتراكي، فلم يكن في أسيوط وقتها من الأدباء من يقيم ويجاهر باقتراف الأدب غيري، فكل من فتح الله عليه بسطرين في مجلة أو أغنية تذاع في الإذاعة ؛ فارق أسيوط، وارتحل إلى القاهرة. ورغبة مني في اكتشاف المبدعين لتغذية الصفحة الأدبية بالمجلة، أعلنا عن مسابقة في الشعر، تقدم لها من طلاب الثانوي سعد عبد الرحمن وجمال فرغلي وغيرهما .. وحين شرعنا في تقييم القصائد، وجدت قصيدة سعد عبد الرحمن العمودية الموزونة بميزان الذهب، تحتوي على ألفاظ لم ترد في قراءاتي .. ولم أصدق أن القصيدة يمكن أن يكتبها صبي في الصف الثاني الثانوي كما يقول في رسالته، هذه قصيدة بالتأكيد منحولة من كتب ودواوين الشعر الجاهلي الذي لا أعرف عنه كثيرا، أو كتبها له ( فطحيل من فطاحل) الأزهر ( وتبقى فضيحة لو فاز بالجائزة.. )... وتحرزا - وأنا رئيس اللجنة - استبعدت القصيدة من المسابقة، وقدمت للجائز الأولى الطالب جمال محمد علي فرغلى . وما أن أعلنت النتيجة حتى تلقبت قصيدة ( تلعن خاش أبونا ) من الشاعر سعد عبد الرحمن، لأننا لا نفهم في الشعر، ولم ألتفت إلى السباب الذي وجه إلي .. وإنما سعدت بالمستوى الفني في القصيدتين المستبعدة والقادحة في معرفتنا بالشعر. لحظتها تمنيت أن ألقى هذا الصبي الشاعر.. سعد عبد الرحمن.
ومرت السنوات اغلق السادات (صوت الجماهير) بل والاتحاد الاشتراكي الذي كانت تصدر عنه،
وجندت للخدمة في القوات البحرية كضابط احتياط. وبعد واقعة الجائزة بعشر سنوات تقريبا جمعتنا أنا وسعد عبد الرحمن لأول مرة (أصبوحة شعرية) في قصر الثقافة مع طلاب كلية التربية بأسيوط .. وكان بينهم الشاعر سعد عبد الرحمن ... تعرفنا عقب الندوة الشعرية .. لكنه أشاح بوجهه عني في كبرياء قروي .. وتذكرت السبب .. فاعتذرت له .. وبروحه الطيبة .. صار من أقرب الأصدقاء إلى قلبي وما يزال رحمه الله
أما فوزي خضر .. وصلاح اللقاني .. وعصام الغازي.. فكان عمنا محسن الخياط قد جمع أسماءنا على غلاف ديوان (أغنية لسيناء )، الديوان الذي جمع محسن الخياط مادته، وصحح قصائده ورتبها، وجاهد حتى أصدره عن هيئة الكتاب المصرية، لأسماء تراسله على صفحة (أدباء الأقاليم) بشر بهم دون أن يراهم .. ودون أن يروه. وظللت لا أعرف أحدا ممن شاركتهم في المجموعة الشعرية لسنوات حتى جمعتني مؤتمرات الثقافة الجماهيرية بفوزي خضر.. وصلاح اللقاني .. بالمصادفة.
قرر مؤتمر أدباء مصر الذي عقد بالعريش أظن عام 1998 (مؤتمر اعلان المقاطعة لإسرائيل) أن يكرم فوزي خضر ( الاسكندرية ) ودرويش الأسيوطي (أسيوط ) .. وعندما صعدنا لاستلام درع التكريم أبدى محافظ شمال سيناء دهشته قائلا: فيه حاجه غلط .. المفروض درويش يبقى من الاسكندرية.. وفوزي من أسيوط .... فأنا أبيض .. وفوزي خضر أسمر اللون .. ربما لم يكن الرجل يعلم أن سواحل مصر وأطرافها ... عمرها الصعايدة ,
شاء القدر أن أحظى بلقاء عبد الله السيد شرف لدقائق لا غير في دمياط .. جاء جالسا على كرسيه لحضور المؤتمر، وغادرنا لا أذكر السبب .. أعطيته عنواني .. وأخذت عنوانه .. ولم تنقطع مراسلاتنا من يومها حتى فارقنا إلى رحاب ربه بعدها بسنوات .. والمدهش أنني كنت أتلقى في يوم مولدي من كل عام، بطاقة تهنئة من عبد الله السيد شرف .. أتفقدها وأجدها في صندوق بريدي في يوم مولدي ..!! أما عصام الغازي.. فتمنيت أن التقي به، لكن (اللقا نصيب) فقد رحل دون أن ألقاه.
في مؤتمر للأدباء الذي عقد لأول مرة بالإسماعيلية .. لاحظت التفاف بعض الأدباء حول ( قمر بحراوي )، بشوش الوجه، يبتسم في وجه كل من يحادثه، قلت لمرافقي: مين ده .. ؟ اندهش صاحبي: انت ما تعرفوش ؟ دا الراجل اللي بينشر لك في العمال والمسا ..!! هتفت مصعوقا ( محمد جبريل ؟) ويبدو أن صوتي كان مرتفعا لدرجة أن الرجل سمع اسمه، فالتفت إلي، وقبل أن يكتمل وقوفه مسلما، كنت في حضنه.
وحين حصلت على جائزة الدولة التشجيعية في الشعر (1997)، كان أول اسم يرد على بالي لدعوته هو محمد جبريل. لم يتأخر الرجل .. وجاء وشارك في كل الفاعليات التي لم تشهدها أسيوط من قبل، وحضرها المحافظ ومن معه، ولفيف من أدباء مصر الكبار و وإعلامييها و فنانيها، والتي نظمها مدير الثقافة الكفء صلاح شريت، وأدارها باقتدار صديقي الشاعر سعد عبد الرحمن.. وقبل أن يسافر محمد جبريل، همس في أذني قائلا : أنا باحسدك يا درويش .. عارف أنا لما خدت جايزة الدولة ... استلمتها ف بير السلم ....
أما عمي وصاحب الفضل على جيلنا فهو محسن الخياط ... دامت مراسلاتي معه سنوات قبل أن ألقاه في مؤتمر في الثمانينات من القرن العشرين بأسوان ، وقبل أن يتوفاه الله بسنوات قليلة .. ترافقنا في فعاليات المؤتمر و افترقنا على أمل اللقاء .. ولكن (اللقا نصيب)... وكلما سمعت من يغني ( يا ليلي آه .. يا حب آه ) سالت دموعي كما تسيل الان ... رحم الله من فارق دنيانا .. وبارك الله في أعمار من نسأله لقياهم .. و (اللقا نصيب) ...