مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

ياسر مخلوف الجعفري يكتب: عارف يعنى إيه فنان

2025-06-17 14:28:57 - 
ياسر مخلوف الجعفري يكتب: عارف يعنى إيه فنان
ياسر مخلوف الجعفري
منبر

عارف يعني إيه فنان... عازف... موسيقي يبيع العود بتاعه؟ قالها بغضب لم أتوقعه، رغم أن سؤالي كان مجرد دعابة!! واستطرد صارخًا: يعني بيبيع روحه، بيبيع نفسه، بيبيع حتة منه غالية قوي عليه، بيبيع الصديق والرفيق اللي بيهون عليه الطريق، بيبيع الركن الجميل اللي بيجري يستخبى فيه لما تزيد عليه الهموم والضغوط.

لم يكن من عادة إبراهيم الانفعال بتلك الطريقة، فقد كان شخصًا مسالمًا ووديعًا وهادئ الطباع، تجمعنا معرفة قديمة واهتمامات مشتركة، مما جعلني أنظر إليه مندهشًا وكأنه شخص آخر.

كانت أيامًا جميلة مر عليها ما يقرب من ربع قرن من الزمان. كنت بالمرحلة الجامعية وكان يكبرني بعدة أعوام، جمعت بيننا جلسات وأمسيات قصر الثقافة وقت أن كانت قصور الثقافة ما زالت تتنفس وتناضل لتبقى على قيد الحياة. وكان إبراهيم يهوى الموسيقى تحديدًا العزف على العود.

إبراهيم كان يملك حضورًا طاغيًا ببساطته وعفويته الشديدة، كان بعيدًا كل البعد عن التكلف، تلقائيًا لأبعد حدود، يتفاخر دائمًا بأنه لا يحتاج إلى الطعام والشراب مثلما يحتاج لصوت العود، فهو يتنفسه مع كل ذرة هواء تقريبًا. كان فنانًا حقيقيًا يمتلك حس وشعور فنان راقٍ مبدع، تشعر وأنت جالس معه عندما يمسك بالعود وتداعب أنامله أوتاره، فكأن أصابعه هي الأوتار، وكأن ذلك الصوت الشجي العذب يخرج من داخل قلبه وشرايينه، أو كأن العود قلب ينبض وتلك الأوتار شرايين.

ولكن لماذا إبراهيم بالذات الذي أتذكره الآن بعد كل تلك السنين؟ كنت قد دخلت للتو إلى المحطة لانتظار قطار العودة بعد زيارة قصيرة بمستشفى الجامعة. شيء ما شدني نحو ذلك الرجل الجالس على أحد مقاعد المحطة ممسكًا بعود موسيقي كلاسيكي من ذلك النوع القديم. اقتربت منه وسألته، وفي نفسي هاجس غريب: حضرتك تعرف الأستاذ إبراهيم؟!!!

أيوه أنا إبراهيم، أهلاً بحضرتك. تصدق إنك تالت واحد يديني معاد علشان يشوف العود، بس أنت الوحيد اللي جيت. على فكرة العود ده قديم ومن خشب الورد، صناعة الفنان مراد التركي، مفيش منه دلوقتي، ولو لقيته هيكون غالي، بس أنا مش طالب فيه كتير. قول لي، هو حضرتك فنان محتاجه تعزف عليه ولا واخده كده وخلاص؟ يارب تكون فنان، أصل العود ده غالي عليا جدًا، بس الظروف... الحمد لله. بس لو أنت فنان، أنا مش هكون زعلان قوي، لأنك هتعرف قيمته وتحافظ عليه. شوفه كده، هيعجبك خالص، إيه رأيك؟

حاولت مقاطعة الرجل: أستاذ إبراهيم، أنت مش فاكرني؟ ولكن الرجل واصل حديثه عن أصالة العود ومميزاته وقيمته الزمنية. كان يشبه إبراهيم، إلا إنه كان مترددًا باهتًا، أجاد الزمن رسم خطوطه الغائرة التي تحمل عمق السنين على وجهه الحزين، مما جعله يبدو أكبر من عمره الذي أعرفه بكثير. يتحدث بصعوبة، تخرج كلماته متلعثمة، يجاهد في الحديث وكأنه يخشى أن تضيع منه الكلمات.

هو حضرتك الأستاذ إبراهيم؟ أنت مش فاكرني؟ أنا ياسر... ياسر مخلوف، مش فاكر زمان قصر الثقافة وكازابلانكا والأستاذ درويش وعبد الرحمن وماجدة وعمر بتاع بني حبيل ومريم ام صوت كروان؟ مش ممكن تكون

مساحة إعلانية