مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه الأحداث وتتبدّل القيم، يطرح سؤالٌ نفسه بإلحاح على كل من يراقب المشهد الاجتماعي في مصر: هل فقد المجتمع المصري التربية؟ وهل أصبحت الأخلاق "سلعة نادرة" في زمن الصراخ والأنانية واللهاث خلف المكاسب السريعة؟
الحقيقة أن المشهد بات مقلقًا. مشاهد يومية في الشارع، المدرسة، المواصلات، وحتى في المنازل، تعكس تحوّلات خطيرة في السلوك العام، وانحدارًا ملحوظًا في مفاهيم كانت يومًا ما تُعد من المسلّمات: احترام الكبير، الحفاظ على الذوق العام، ثقافة الاعتذار، وقيمة الكلمة.
التربية ليست تعليمًا فقط، فكم من المتعلمين يفتقدون لأبسط قواعد السلوك الراقي؟ التربية هي غرس القيم في النشء منذ الصغر، وهي مسؤولية الأسرة أولاً، ثم المدرسة، فالإعلام، والمجتمع بأسره. حين تتخلّى الأسرة عن دورها، وتترك الطفل أسيرًا لهاتفه، يستقي مفاهيمه من "التريند" و"اليوتيوبر"، دون رقابة أو توجيه، كيف نلومه إذا ما كبر لا يعرف معنى الاحترام أو الانضباط؟
نعم، هناك عوامل اقتصادية ضاغطة، وهناك تراجع في بعض أدوار المؤسسات التعليمية والدينية، ولكن كل هذا لا يبرر تآكل القيم. فالفقر لم يكن يومًا مبررًا لقلة الأدب، ولا للغش، ولا للشتائم، ولا للعنصرية التي باتت تُمارس بأريحية حتى بين الأطفال!
وهنا تأتي مسؤولية الدولة، فلابد أن تتدخل بأجهزتها، ليس فقط من خلال القوانين الرادعة، بل عبر خطط تربوية وثقافية وإعلامية مدروسة، تعيد بناء الوعي الجمعي. وزارة التربية والتعليم يجب أن تعيد النظر في المناهج، ووزارة الثقافة مطالبة بالنزول إلى الشارع، وتفعيل دور قصور الثقافة، ووزارة الداخلية بدورها تستطيع أن تساهم في ضبط السلوك العام من خلال تفعيل قوانين الذوق العام، وتعزيز الانضباط في الأماكن العامة، فيما يُفترض بالإعلام الوطني أن يتحوّل إلى منصة لبناء القيم لا لهدمها.
نحن لا نعمّم، فمصر لا تزال تنبض بشرفاء كُثر، وشباب واعٍ يحارب التيار السائد، وأسر متمسكة بجذور التربية الأصيلة. لكننا ندق ناقوس الخطر، ونطالب بوقفة جادة، نعيد فيها ترتيب الأولويات:
فالإنسان المهذب خير من الإنسان المتعلم بلا خلق، والمجتمع بلا تربية، هو مجتمع يسير نحو الهاوية، مهما امتلك من أبراج وطرق وكباري.
فهل نبدأ بأنفسنا، ونراجع طريقة تعاملنا مع أبنائنا؟ هل نعود لنغرس فيهم أن "لو سمحت" و"شكراً" ليست كلمات ترف، بل أساس في بناء الشخصية؟ وهل نعيد للإعلام دوره التنويري بدلاً من الترفيهي فقط؟ وهل نعيد للمعلم هيبته، وللمدرسة دورها التربوي، لا مجرد حشو مناهج؟
التربية مشروع وطني، إما أن نتبناه جميعًا… أو نتحمّل جميعًا ثمن غيابه.