2025-05-23 05:29:26
مساحة إعلانية
مدن السعادةِ ليست موطنا للأنقياء،لن يجدوا فيها شبيها لهم ،وابدا لن يجدوا فيها ملاذهم ومأواهم. فى صغرها لم تكن محبوبة من امها ،كانت تفضل اخوتها عليها ،كانت مجرد خادمة للجميع ، كانت تدخر مصروفها لتستأجر كتبا , عشقا فى القراءة ،او ربما محاولة للهروب من الواقع ،ايجار الكتاب عشرة قروش فى اليوم ،فكانت حريصة على ان تقرأ كل يوم كتابا مختلفا ،عشقت القصص المتمردة ،والروايات المليئة بالأساطير ،عشقت المغامرون الخمسة والشياطين ال ١٣ ،أدمنت تشارلز ديكنز وأچاثا كريستي وغاصت فى العوالم الخفية وروايات الرعب والماورائيات ،فى وقت الظهيرة والصيف على اشده ،والشمس كفيلة بحرق كل ماتراه عينها , تتسلل إلى الخرابة المسكونة بالجن على بعد ليس بالكثير من منزلها , على أمل ان تَصدُق رواية "طاهر ابوفاشا "الف ليله وليله", فتنشق الخرابة ويظهر قصر أمير الجن , يراها فيعشقها. وبقدرته الفائقة يخلصها مما تعاني .
قبل المراهقة بقليل زوجوها , وسرعان ما اصبحت أما لطفل مثلها ،ولكنها وجدت فيه الحبيب ،من يستطيع ان يحبها مثله، ومن مثله فى الأساس ،هو الحب المولد من خاصرة الوجع ،ومن أشجار الكرز، كبرت وكبر معها وتقاسما كل شىء الحلم والواقع والامل والمستحيل ،اصبح صديقها الصدوق واصبحت كاتمة اسراره، وكبرا مرة أخرى , واحب فتاة جميلة مثله ،ويوما تلو الآخر انشغل عنها ،وعادت هى مرة أخرى للقراءة والكتابة , والفرار من الواقع .
عرفت طريق الفيس بوك ،شىء جميل هذا العالم الافتراضي الذى لا يعرف احدا فيه الآخر ، ولكنها لم تستطع الانخراط فيه, ظلت بشخصيتها الحقيقية المعقدة الخائفة من كل شىء ،لقبها الجميع بالقلعة المصفحة ،وربما كانت هذه كذبتها الوحيدة ،لم تكن ابداً بالقوة التى ظنوا .
كانت أجبن من ان تحاول , ففضلت المشاركة من وراء ستار ،استطاعت بسهولة ان تخلق لها مكانا بين الأدباء ربما موهبة فذة كما قال النقاد ،وربما محصلة لغوية وخيال جامح , حصيلة ما قرأت سابقا،لم تكن الشهرة هدفها قط ،بالعكس ،كانت ترفض الظهور على السوشيال ميديا بكل اشكالها ،باستثناء الفيس بوك فهو نافذتها الوحيدة على الحياة ،كانت شديدة الحرص على انتقاء أصدقائها ،أغلبهم ان لم يكن كلهم من صفوة المثقفين ،وعلية القوم ،الاحترام عندها آهم من الحب ذاته ،تفضل ان تكون محترمة فى عيون الناس ،على ان تصبح حبيبة لأحدهم،هى ضد الوساطة فى كل امورها ،رفضت دعوات ثقافية لمؤتمرات وندوات وحفلات تكريم خوفا من الاندماج فى هذا الوسط , حتى ظهر فى حياتها،هو لا يشبهها اطلاقا، ولا يشبه فارس الأحلام الذى عشقته على الورق صناعة خاصة بمخيلتها منذ نعومة أظافرها ،لا يتمتع ولو بقدر قليل من الوسامة، وليس له اى ميول أدبية ،وليس من علية القوم.
مع كل هذه الأسباب ،وهذه الاختلافات الجذرية ،الحب بينهما ضرب من المحال ،ولكن.... به شيئا يجذبها كالمغناطيس ،لا تدرى ماهو ،تودده إليها ؟! أم احتماله لغطرستها ونظرتها المتدنية نحوه ؟!
يقابل الجفاء بحب طاغى ،والتمرد والعنفوان بهدوء جذاب، تخاصمه تثور وتكيل الشتائم المباحة بالنسبة لثقافتها وتربيتها ،يقابلها بضحكة تعيد إليها انوثتها المفقودة .
خمسون بلوك على كل نوافذ التواصل المشتركة بينهما منها ،يقابلهم خمسون مليون رنه ورسالة منه ،تخطأ ،يصحح أخطائها ،تثور ، يهدىء ثورتها ،تبكى يصنع من السعادة فستان بلون الورد ويلبسها إياه.
كان متابعا شغوفا جدا لكتاباتها، يصحو من نومه على جريدة إليكترونية اعتادت النشر فيها يوميا ،ليرى ما نشرت بعد الثانية عشر ليلا ،حيث اعتاد النوم بعد العشاء مباشرة ليستيقظ عل آذان الفجر، يقرأ القصيدة اكثر من مرة ،قبل فنجان شاى الصباح وقطع البسكويت المصنوع منزليا . تصحو على صوت رسالة الواتساب ،تخبرها بأنه حول القصيدة إلى فيديو فائق الروعه ،من حيث المونتاج ،الى اختيار الموسيقى المناسبه ،بالإضافة الى الصور المتماشية كلية مع الكلمات ،والأروع صوت الملقى أصبح صديقا ،ثم صديقا مقربا ،ثم مقربا جدا،اعتاد النوم على صوتها والاستيقاظ على قصيدتها ،واعتادت فتح نافذة قلبها لتقص عليه مواجعها المخبوءة منذ عصور ،واحلامها المؤجلة والمستحيلة لتصبح كاتبة مشهورة ،تنشر كل سنة كتابا ،وتحصد الجوائز الأدبية ،ويسجل اسمها فى سجل الشعراء المعاصرين،لم تستغرق بين اصابعه اكثر من سته أشهر لإدمانه ،كان يسمعها كل ليلة جملة تهز كيانها حين تقول له تصبح على خير ( تصبحين وانت كل أهلى )،فاجأها يوم ميلادها والذى لم تحتفل به اطلاقا من قبل ،بكتاب مطبوع باسمها ،جمع القصائد من على صفحتها الفيس بوكيه وأرسلهم الى دار نشر كبيرة والتى بدورها قامت باعداد الكتاب وتصحيحه لغويا وعروضيا وطباعته، كانت المفاجأه أكبر من رؤيتها له ،لم تذق طعما للسعادة بهذا القدر منذ زمن بعيد ،خبرها بأنها على يدية ستصبح أديبة لم يوجد لها مثيل من قبل ،ووعدها بطبع كتابا كل عام على نفقته الخاصه ،ولقبته بسيد العام ،سيد العام الذى يمر علينا يوم مولدنا ليحقق لنا أحلامنا.
ازداد ادمانها له ،قال لها يوما اعرف ان عيونك لا ترانى ،ولكن رجاء لوجه الله تعلمى كيف تحسبين الأشياء بالورقه والقلم ،سألته كيف ؟ قال اكتبي فضائلي ومساوئى وقارنيهم بمن مروا عليك فى الحياة ،وتمسكى بالأفضل ،لا اخفيكم سر لم يكن لديها رجلا للعام سواه ،ولم تفتح نافذة قلبها إلا له ،ولم يؤمن رجل بموهبتها ويدعمها مثله ،وعدها بأن يفتح لها قناة يتيوبية لتزداد شهرتها ،وينتج لها فيديو يوميا وينشره على التيك توك ،ويوثق لها كتابا كل عام يشارك فى معارض الكتب الدوليه، أى رجل هذا ؟!! وأى حلم تعيش؟!!
لا يوجد بشرى واحد مبرأ من العيوب ،وكان عيبه غيرته الشديدة ،يغضب من تعليقات القراء ،وكلما شك فى تعليق تابع صاحبه بحساب وهمي باسم انثى ،حتى يكشف ميوله المخبوءة ،ليس كلهم خائنون ،ولكن من يرفض أنثى جاءت اليه بكل بساطه فاردة ذراعيها لاحتواء شهوته ،بعدها يعرض عليها الإسكرينات التى سجلها للصديق ليثبت خيانته ،وصديق تلو صديق ،وتعليق تلو تعليق ،بدأ الملل يتسرب الى عقلها ،واقتناعا بفكرة حساب الورقة والقلم رأت انه الأفضل والأبقى ،ربما ان خسرته لا تعوض خيرا منه ،كما انه واقع ملموس ،الكل افتراضيا ،فلما المجازفه بالأساس؟ من هنا تنازلت عن صفحتها الفيس بوكيه وجمهورها ومتابعيها من اجل ارضائه ،تنازلت وهى بكامل قواها العقليه والعاطفيه ( هو أهم وابقى واغلى).وزفّت اليه الخبر الذى قابله بترحاب وحب كبير ،ووعدها فى المقابل ان يسرع فى فتح القنوات الخاصة بها لتبدأ فى بث اعمالها عليها ،وعرض عليها الزواج ليصبحا رفقاء طريق واحد فى العلن امام كل الخلق ،وافقت فأحيانا الأرملة تصبح اكثر احتياجا إلى رجل تسند عليه أوجاعها برغم تقدم السن ،لم يمر على زواجهما سوى ثلاثة أشهر ،وعرفت على يديه حقيقة الحساب بالورقة والقلم ،كان محتفظ بملف فيه كل تعليقاتها عند اصدقائها كلا بصفحة خاصة باسمه ،وبدأ يعاملها بشدة وعصبية لم تراهما من قبل ،خبرته انها مجرد ردود على النصوص المكتوبه ليس لها شأن بصاحب النص ،وكان رده صفعة اسقطتها ارضا ،ليخبرها بأن بعض العاهرات لا يدرين بعهرهن ،ولكنهن اكثر عهرا من المكشوفات امام الجميع ،عاقبها على كل حرف كتبته ،وتفنن فى اذلالها وتعذيبها ،ومحا اسمها من كل مواقع التواصل ،سجنها واحكم اغلاق السجن ،وفى كل ليلة كانت تسمع منه جملة يصر على تنفيذها( أسمعيني صوت النعجة).