مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

كريم صبحي يكتب :الوادي الجديد:"حت نوب"الذهب المدفون في قلب الصحراء

2025-06-11 03:19:30 - 
كريم صبحي يكتب :الوادي الجديد:"حت نوب"الذهب المدفون في قلب الصحراء
كريم صبحي

في قلب الصحراء الغربية، حيث تحتضن الرمال أسرار التاريخ وتروي حكايات حضارات اندثرت وتخفي كنوزًا لم تُكتشف بعد، تمتد محافظة الوادي الجديد، أوسع محافظات مصر مساحة، بما يعادل نحو 44% من مساحة البلاد. أرضٌ عظيمة، وصفها المصري القديم بـ"حت نوب" – أي "بيت الذهب" – لما تزخر به من ثروات طبيعية، وآثار خالدة، وموارد مائية وأرضية هائلة، لم تجد بعد طريقها نحو خريطة التنمية الشاملة والاستثمار الواعي.

ورغم هذا الاتساع الهائل، لا يتجاوز عدد سكان الوادي الجديد 265 ألف نسمة، لتبقى واحدة من أقل المحافظات كثافة سكانية. وبينما تفيض أرضها بالموارد، يعاني أهلها من نقص الفرص ومحدودية الخدمات. وفي مشهد يعكس التناقض المؤلم، يعيش أغلب سكان الواحات البحرية – كما هو حال كثير من أبناء الوادي – على ما يستخرجونه من باطن الأرض من كنوز ومقابر أثرية، في غياب كامل لمشروعات بديلة تمنحهم سبل عيش كريمة تحفظ لهم ولتراثهم الكرامة.

تمتلك المحافظة واحدًا من أضخم الخزانات الجوفية في إفريقيا – خزان الحجر الرملي النوبي – ما يمنحها إمكانات زراعية غير محدودة. وتتمتع واحات الداخلة والخارجة والفرافرة بأراضٍ خصبة ومناخ مناسب لزراعة محاصيل استراتيجية مثل القمح والتمر والنباتات الطبية والعطرية، مما يؤهلها لتكون ركيزة لصناعات غذائية وتصديرية تنافس على المستوى الإقليمي والعالمي.

لكن الموارد وحدها لا تصنع التنمية. فعلى الصعيد السياحي، تضم المحافظة مواقع أثرية نادرة، من معبد هيبس ومدافن البجوات إلى مناظر طبيعية لا مثيل لها، تصلح للسياحة البيئية والعلاجية. لكن هذا الإرث لا يُستثمر كما يجب، في ظل غياب البنية التحتية المناسبة، ونقص الخدمات السياحية، وإقصاء المجتمع المحلي عن معادلة التنمية، جعلا هذه الكنوز معطّلة، تنتظر من يعيد اكتشافها بمنطق الشراكة لا الاستنزاف.

إن تنمية الوادي الجديد ليست مجرد خيار اقتصادي، بل ضرورة قومية واستحقاق عدالة تأخر كثيرًا. المطلوب ليس فقط توجيه استثمارات، بل تغيير فلسفة التعامل مع الصعيد والصحراء، من منطق التهميش إلى منطق التمكين. يجب أن يُمنح أبناء المحافظة الأدوات والفرص ليكونوا هم صناع التغيير في أرضهم، عبر تعليم عصري، وتدريب فني، وتمويل ميسر، وبنية تحتية تربطهم ببعضهم وبباقي مصر.

الوادي الجديد يمكن أن يتحول إلى نموذج تنموي متكامل، يرتكز على الزراعة الذكية، والصناعة القائمة على الموارد المحلية، والسياحة المستدامة، والخدمات اللوجستية العابرة للحدود، خصوصًا مع قربه من ليبيا وارتباطه بشرايين تنمية واعدة مثل طريق "توشكى – شرق العوينات" ومحور "القاهرة – السلوم". لكن ذلك يتطلب إرادة سياسية لتطوير البنية التحتية الذكية، من طرق حديثة وطاقة نظيفة وربط رقمي، تجعل من الواحات مراكز إنتاج لا أطرافًا منسية.

نحتاج إلى إطلاق مشروعات صغيرة ومتوسطة تنطلق من داخل الواحات لا من خارجها، وتستفيد من سلاسل القيمة في قطاعات مثل التمور والعسل والنباتات الطبية. نحتاج إلى تمكين المجالس المحلية المنتخبة لتقود التنمية من أسفل إلى أعلى، مع فتح حوار مجتمعي حقيقي، يضمن أن تكون كل خطة انعكاسًا لاحتياجات الناس لا مجرد قرارات مركزية على ورق.

لقد آن الأوان أن نعيد للوادي الجديد مكانته. فالوقت لا يرحم، والتأجيل صار خيانة لأرضٍ تنتظر، ولشعبٍ يعيش على أطلال التاريخ ويبحث عن مستقبل. إن "حت نوب"، بيت الذهب، لا يجوز أن يبقى كنزًا مدفونًا في الرمال. إنها الفرصة الأخيرة لإعادة التوازن بين قلب مصر وأطرافها، بين ماضيها العريق ومستقبلها الموعود.

وإن لم نتحرك اليوم، فسنكون قد خسرنا أكثر من فرصة استثمار... سنخسر مصر الحقيقية. الوقت ينفد، والمعادلة واضحة: إما التنمية الآن، أو الإقصاء إلى الأبد.

مساحة إعلانية