مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

د.أيمن الداكر يكتب : هوامش على دفتر المحروسة (24)ياسين وبهية

2024-07-07 14:12:15 - 
د.أيمن الداكر يكتب : هوامش على دفتر المحروسة (24)ياسين وبهية
د.ايمن الداكر

يا بهية وخبريني يا بوي ** ع إللي قتل ياسين.
سؤال واحد وإجابات عديدة، فقد ظن (بيرم التونسي) أن ياسين كان ضحية للعشق، قتلته بهية بعيونها السوداء، وقد أقرت بذلك قائلة.
قتلوه السود عينيا يا أبوي ** من فوق ضهر الهجين.
لكن (أحمد فؤاد نجم) دافع عن بهية بقوة، فالقاتل هو العسكر الذي قبض على ياسين وغيبه في السجون، وقد شهد على ذلك بقوله:
أنا رُحت القلعة وشُفت ياسين ** حواليه العسكر والزنازين.
وقال (نجيب سرور) في مسرحيته الشعرية أن القاتل هو الإقطاعي ابن الباشا، الذي ظلم ياسين وسلب أرض أبيه، ولم يكتف بذلك بل طمع في بهية محبوبة ياسين، لكن ياسين يرفض ذلك الاستبداد ويقود الثورة ضد الباشا، ويصبح بطلًا من أبطال الحكايات الشعبية، وسيرته موال يتغنى به العامة والبسطاء، وتصبح حكايات ياسين وبهية مضربًا للعشق والتضحية والغرام، ويتغنى بها (محمد قنديل) قائلًا:
لما ياسين اختفى، زاد العزول ما اكتفى ** حطم حياة ولهان
بهية آخر الحكاية، قاعدة ما بين الصبايا** والآه تقولها آهات.
يا ليل يا شاهد عليهم ** في الفرح أو في الأنين
إنت إللى تدري النهاية ** ما بين بهية وياسين
وتجيئ (شادية) لتسأل بهية عن أحوال العاشقين.
يا بهية وخبريني يا بوي ** عن حال العاشقين.
حبيت والشوق كاويني ** وإن قلت أقول لمين.
لكن بموت ياسين تصبح الحكاية حزينة، يخشاها كل عاشق ولا يتمنى نهايتها ومجرياتها، وكما غنى (مدحت صالح) قائلًا:
لا أنا يا حبيبتي ياسين ** ولا أنت بهية
داحنا حكاية عاشقين ** منقوشة ووردية.
تفرق دم ياسين ما بين العيون السود والعسكر والإقطاعي، لكنها حكايات واهية مغايرة للحقيقة التي لم يصرح بها غير شاعر الربابة، يرددها في المقاهي والمناسبات الاجتماعية دون زيف أو مواربة قائلًا:
قتله السوداني يا بوي ** من فوق ضهر الهجين.
والسوداني هو الضابط المصري الأسمر (محمد صالح حرب)، ابن مدينة (دراو) التابعة لمحافظ أسون، والذي أصبح لاحقًا وزيرًا للحربية. فقد كان عائدًا من بعثة عسكرية إلى وادي (حلفا) لشراء سرب جمال لسلاح الهجانة، وأثناء مروره بأحد الأودية المتاخمة لجبال أسون، أخبره أحد الجنود عن رؤيته لبدوي يرقد على بطنه عند إحدى المغارات. أدرك الدليل المصاحب لهم أن هذا الإعرابي هو الشقي (ياسين)، فحذّر الضابط منه وحاول منعه من الإقتراب من المغارة، لكن بدون فائدة، وأقترب الضابط من المغارة ليفاجئه ياسين بوابل من الرصاص، وبعد تبادل لإطلاق النار لم يجد الضابط غير الحيلة للتغلب على هذا الشقي، فصعد التل وأسقط على فتحة المغارة حبلًا تتدلى منه حزمة بوص مشتعلة، أجبر دخانها ياسين على الخروج من المغارة، لتتلقاه أربع رصاصات من الضابط، تستقر إحداها في قلب ياسين ليسقط صريعًا، وتخرج (بهية) من المغارة خلفه تصرخ وتولول وتزغرد مردّدة (بركة لي، بركة لي)، وذلك لخلاصها من حياة التشرد والخوف والترقب مع ياسين.
يقول اللواء محمد صالح حرب في مذكراته أن مأمور مركز (المحاميد) لم يصدق الخبر حتى رأى جثمان ياسين في جوال فقال: "لقد تخلصنا من شيطان رجيم".
انتهت أسطورة ياسين، ذلك الشقي قاطع الطريق الذي اتخذ من القتل حرفة، يلهوا بها ويلعب، ويطرب لسماع اسمه يتردد بين الناس في خوف وهلع، وكان يقول لأقاربه: لماذا لا أكون مثل أبى زيد الهلالي على الربابة؟ وقد روّع الناس بجرائمه في مديرتي أمن قنا وأسوان، وأصبح لا حديث للناس إلا عما يتوجسونه من بلائه وشره المستطير.
وقد عجزت الحكومة عن القاء القبض عليه لسنوات طويلة، فكانت تجرد له الدوريات والحملات بمختلف الضباط وتمدهم بقوات إضافية، ودائما ما ينتهي الأمر بنجاة ياسين بعد أن يخترق صفوفهم ويقتل بعض من جنودهم، وتضاف بطولة جديدة في سيرة ياسين الأسطورية، فقامت وزارة الداخلية بتكليف (على بك) عمدة القبيلة التي ينتمي إليها ياسين بالقبض عليه، وإلا سيتم تجريده من رتبته إن لم يحضر لهم هذا الشقي حيا أو ميتا، وبالفعل نجح العمدة بمعاونة رجال قبيلته في العثور عليه وطلب منه الاستسلام فقال ياسين: "يا سيدي أنت عمدتنا ورئيسنا ويعز على أن أؤذيك، وأنت تعلم أني محكوم عليّ بالإعدام، ولن ترحمني الحكومة إذا قبضت عليّ، وأنا لن أسلم نفسي حيا أبدا، ولن أموت رخيصا فخير لك أن تتركني". 
فتركه العمدة وعاد إلى مفتش الداخلية ليقول له: "خذوا رتبكم ونياشينكم إذا شئتم، ولست أقوى من الحكومة حتى تكلفوني بما لا أطيق، وأنا علمت أن الشقي في جهة كذا فأقبضوا عليه أو أقتلوه". 
تحقّق لياسين ما كان يحلم به، وتحولت سيرته إلى حكاية بطل شعبي مثل أبو زيد الهلالي والظاهر بيبرس وعلي الزيبق، تناسى الناس إجرامه وتجبره عليهم وبقى ما أحبوه فيه، بقيت صورة البطل الذي (دوّخ) الحكومة كما دوّختهم، الذي لطم الإقطاعي والضابط الإنجليزي على قفاه، ورفض الضمير الشعبي إتهام ياسين بالبلطجة والتشرد ورفض قتله بتلك الطريقة، وشكلوا محاكمة شعبية لقاتله بعد أربعة أعوام من حادثة مقتل ياسين، وحكم القاضي الشعبي على القاتل بالسجن أربع سنوات، ليُخَلّدها شاعر الربابة قائلًا:
وبهية في المحاكم ** شدت واحد وكيل.
وياسين سايح في دمه ** خايف منه الحكيم.
احكم بالعدل يا قاضي ** قدامك مظاليم.
عوج الطربوش على ناحية ** وحكم بأربع سنين.
وأصبحت بهية رمزًا للمحبوبة المُلهمة، التي يسكن إليها البطل فتمنحه الدفء والمحبة والأمان، جميلة وصبية وبهية تستحق أن يتحدى ياسين كل الدنيا من أجل عيونها السود، فتتحول بهية إلى رمز لتلك الأرض الطيبة التي نضحي من أجلها بالنفس والمال والولد، بهية التي يخرج من رحمها كل يوم ياسين، ويصدح الشيخ إمام بكلمات الشاعر أحمد فؤاد نجم قائلًا:  
يا بهية وخبرينا ** ع اللي قتل ياسين.
ف الصحراء وف المدينة ** اليوم ده ومن سنين.
ناس تمشي وناس تجينا ** واحنا متبعترين.
ولا صاري ع السفينة ** ولا مربط للهجين.
والدنيا بتجري بينا ** واحنا متوخرين.
يا بهية ولملمينا** نطرح مليون ياسين.

مساحة إعلانية